فصل: (أكابرِ التابعينَ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح التبصرة والتذكرة ***


مَعْرِفَةُ التَّابِعِينَ

‏[‏حدُّ التابعيِّ‏]‏

817‏.‏ والتَّابعُ اللاَّقِي لِمَنْ قَدْ صَحِبَا *** وَلِلْخَطِيبِ حَدُّهُ‏:‏ أنْ يَصْحَبَا

اخْتُلِفَ في حدِّ التابعيِّ، فقالَ الحاكمُ وغيرهُ‏:‏ إنَّ التابعيَّ مَنْ لقيَ واحداً منَ الصحابةِ فأكثرَ، وسيأتي نقلُ كلامِ الحاكمِ في البيتِ الذي يلي هذا، وعليهِ عملُ الأكثرينَ‏.‏

وقدْ ذكرَ مسلمٌ وابنُ حِبَّانَ‏:‏ سليمانَ بنَ مِهْرَانَ الأعمشَ في طبقة التابعينَ وقالَ ابنُ حبانَ‏:‏ «أخرجناهُ في هذهِ الطبقةِ؛ لأنَّ لهُ لقياً وحفظاً‏.‏ رأى أنسَ بنَ مالكٍ، وإنْ لَمْ يصحَّ لهُ سماعُ المسندِ عن أنسٍ» انتهى‏.‏ وقالَ عليُّ بنُ المدينيِّ‏:‏ «لمْ يسمعْ من أنسٍ، وإنما رآهُ رؤيةً بمكةَ يصلِّي» وليسَ لهُ روايةٌ في شيءٍ من الكتبِ الستةِ عن أحدٍ منَ الصحابةِ إلاَّ عن عبدِ اللهِ ابنِ أبي أوفى في ‏"‏ سننِ ابنِ ماجه ‏"‏ فقطْ‏.‏ وقالَ أبو حاتمٍ الرازيُّ‏:‏ «إنَّه لمْ يسمعْ منهُ» وقالَ الترمذيُّ‏:‏ «إنَّهُ لمْ يسمعْ من أحدٍ منَ الصحابةِ»، وعدَّهُ أيضاً في التابعينَ عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ‏.‏ وعدَّ فيهم يحيى بنَ أبي كثيرٍ؛ لكونهِ لَقِيَ أنساً‏.‏ وعدَّ فيهم موسى بنَ أبي عائشةَ؛ لكونِهِ لقيَ عَمْرَو بنَ حُريثٍ‏.‏ وعدَّ فيهم جريرَ بنَ حازمٍ لكونهِ رأى أنساً، وهذا مصيرٌ منهم إلى أنَّ التابعيَّ‏:‏ مَنْ رأى الصحابيَّ‏.‏ ولكنَّ ابنَ حبَّانَ يشترطُ أن يكونَ رآهُ في سنِّ مَنْ يحفظُ عنهُ، فإنْ كانَ صغيراً لمْ يحفظْ عنهُ فلا عبرةَ برؤيتِهِ، كخلفِ بنِ خليفةَ، فإنَّهُ عدَّهُ في أتباعِ التابعينَ، وإنْ كانَ رأى عمرَو بنَ حريثٍ؛ لكونهِ كانَ صغيراً‏.‏ وقالَ الخطيبُ‏:‏ «التابعيُّ مَنْ صَحِبَ الصحابيَّ»، والأولُ أصحُّ، ورجَّحهُ ابنُ الصلاحِ فقالَ‏:‏ «والاكتفاءُ في هَذَا بمجردِ اللقاءِ والرؤيةِ أقربُ منهُ في الصحابةِ نظراً إِلَى مقتضى اللفظينِ فيهما» وقالَ النوويُّ في ‏"‏ التقريبِ والتيسيرِ ‏"‏‏:‏ «إنَّهُ الأظهرُ»‏.‏ انتهى‏.‏ وَقَدْ عدَّ الخطيبُ منصورَ بنَ المعتمرِ منَ التابعينَ، ولمْ يسمعْ من أحدٍ منَ الصحابةِ‏.‏ وقولُ الخطيبِ لهُ منَ الصحابةِ ابنُ أبي أوفى، يريد في الرؤيةِ لا في السماعِ والصحبةِ‏.‏ وَلَمْ أرَ مَنْ ذكرهُ في طبقةِ التابعينَ‏.‏ وقالَ النوويُّ في ‏"‏ شرحِ مُسْلِم ‏"‏‏:‏ «إنَّهُ ليسَ بتابعيٍّ؛ ولكنَّهُ من أتباعِ التابعينَ»، وقدْ أشارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الصحابةِ والتابعينَ بقولهِ‏:‏ «طُوبى لمنْ رآني وآمَنَ بي، وطوبى لمَنْ رأى مَنْ رآني …» الحديث، فاكتفى فيهما بمجردِ الرؤيةِ‏.‏

‏[‏طبقات التابعين‏]‏

818‏.‏ وَهُمْ طِبَاقٌ قِيلَ‏:‏ خَمْسَ عَشَرَهْ *** أَوَّلُهُمْ‏:‏ رُوَاةُ كلِّ العَشَرَهْ

819‏.‏ وَقَيْسٌ الفَرْدُ بِهَذا الوَصْفِ *** وَقِيلَ‏:‏ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَوْفِ

820‏.‏ وَقَوْلُ مَنْ عدَّ سَعِيداً فَغَلَطْ *** بَلْ قِيلَ‏:‏ لَمْ يَسْمَعْ سِوَى سَعْدٍ فَقَطْ

821‏.‏ لَكِنَّهُ الأَفْضَلُ عِنْدَ أَحْمَدَا *** وعَنْهُ قَيْسٌ وَسِوَاهُ وَرَدَا

822‏.‏ وَفَضَّلَ الحَسَنَ أَهْلُ البَصْرَةِ *** والقَرَنِيْ أُوَيْساً اهْلُ الكُوفَةِ

ثمَّ إنَّ التابعينَ طِباقٌ، فجعلهم مسلمٌ في كتابِ ‏"‏ الطبقاتِ ‏"‏ ثلاثَ طبقاتٍ‏.‏ وكذا فعلَ ابنُ سعدٍ في ‏"‏ الطبقاتِ ‏"‏، وربَّما بلغَ بهم أربعَ طبقاتٍ‏.‏ وقالَ الحاكمُ في ‏"‏علومِ الحديثِ‏"‏‏:‏ هم خمسَ عشرةَ طبقةً، آخرهم مَنْ لقيَ أنسَ بنَ مالكٍ من أهلِ البصرةِ، ومَنْ لقيَ عبدَ اللهِ ابنَ أبي أوفى من أهلِ الكوفةِ ومَنْ لقيَ السائبَ بنَ يزيدَ من أهلِ المدينةِ» وعدَّ الحاكمُ منهم ثلاثَ طبقاتٍ فقطْ‏.‏ وسيأتي نقلُ كلامهِ‏.‏

فالطبقةُ الأولى منَ التابعينَ مَنْ روى عنِ العشرةِ بالسماعِ منهم، وليسَ في التابعينَ أحدٌ سمعَ منهم إلاَّ قيسَ بنَ أبي حازمٍ‏.‏ ذكرهُ عبدُ الرحمنِ بنُ يوسفَ ابنُ خِرَاشٍ‏.‏ وقالَ أبو عُبيدٍ الآجُريُّ عن أبي داودَ‏:‏ روى عن تسعةٍ منَ العشرةِ، ولمْ يروِ عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ»‏.‏ وأمَّا قولُ الحاكمِ في النوعِ السابعِ من ‏"‏ علومِ الحديثِ ‏"‏‏:‏ وقدْ أدركَ سعيدُ بنُ المسيبِ أبا بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليَّاً، وطلحةَ، والزبيرَ إلى آخرِ العشرةِ‏.‏ قالَ‏:‏ «وليسَ في جماعةِ التابعينَ مَنْ أدركهم وسمعَ منهم غيرُ سعيدٍ، وقيسِ بنِ أبي حازمٍ»‏.‏ انتهى، فهو غلطٌ صريحٌ، وكذا قولهُ في النوعِ الرابعَ عشر‏:‏ «فمنَ الطبقةِ الأولى قومٌ لحقوا العشرةَ منهم سعيدُ بنُ المسيِّبِ، وقيسُ بنُ أبي حازمٍ، وأبو عثمانَ النَّهْديُّ، وقيسُ بنُ عُبَادٍ، وأبو سَاسَانَ حُضَيْنُ بنُ المنذرِ، وأبو وائلٍ، وأبو رَجَاءٍ العُطَارِديُّ»‏.‏ انتهى‏.‏ وقد أُنكِرَ ذلكَ على الحاكمِ؛ لأنَّ سعيدَ بنَ المسيبِ إنما وُلِدَ في خلافةِ عمرَ، بلا خلافٍ، فكيفَ يسمعُ مِنْ أبي بكرٍ‏؟‏ والصحيحُ أيضاً‏:‏ أنَّهُ لَمْ يسمعْ منْ عمرَ، قالهُ يحيى بنُ سعيدٍ القطانُ ويحيى بنُ معينٍ وأبو حاتمٍ الرازيُّ، نَعَمْ …، أثبتَ أحمدُ بنُ حنبلٍ سماعهُ منهُ‏.‏ وبالجملةِ فلمْ يسمعْ من أكثرِ العشرةِ، بلْ قالَ بعضُهُمْ فيما حكاهُ ابنُ الصلاحِ‏:‏ أنَّهُ لا يصحُّ له روايةٌ عن أحدٍ منَ العشرةِ إلاَّ سعدَ بنَ أبي وقاصٍ‏.‏

‏[‏أفضل التابعين‏]‏

المسألةُ الثالثةُ‏:‏ اختلفوا في أفضلِ التابعينَ، فقالَ عثمانُ الحارثيُّ‏:‏ سمعتُ أحمدَ بنَ حنبلٍ يقولُ‏:‏ أفضلُ التابعينَ سعيدُ بنُ المسيبِ، فقيلَ لهُ‏:‏ فعلقمةُ والأسودُ، فقالَ‏:‏ سعيدُ وعلقمةُ والأسودُ»، وهوَ المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏لكنَّهُ الأفضلُ‏)‏، فالضميرُ لسعيدٍ، وقالَ عليُّ ابنُ المدينيِّ‏:‏ هوَ عندي أجلُّ التابعينَ، وقالَ أبو حاتمٍ الرازيُّ‏:‏ «ليسَ في التابعينَ أنبلُ من ابنِ المسيِّبِ»‏.‏ وقالَ ابنُ حبَّانَ‏:‏ «هو سيِّدُ التابعينَ» ووردَ عنْ أحمدَ أيضاً أنَّهُ قالَ‏:‏ أفضلُ التابعينَ قيسُ بنُ أبي حازمٍ وأبو عثمانَ النَّهْديُّ، ومسروقٌ، هؤلاءِ كانوا فاضلينَ ومِنْ عِلْيةِ التابعينَ‏.‏ وعنهُ أيضاً قالَ‏:‏ لا أعلمُ في التابعينَ مثلَ أبي عثمانَ وقيسٍ‏.‏ وقالَ الإمامُ أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ خَفِيْفٍ الشيرازيُّ‏:‏ اختَلَفَ الناسُ في أفضلِ التابعينَ، فأهلُ المدينةِ يقولونَ‏:‏ سعيدُ بنُ المسيِّبِ، وأهلُ البصرةِ يقولونَ‏:‏ الحسنُ البصريُّ، وأهلُ الكوفةِ يقولونَ‏:‏ أويسٌ القرنيُّ‏.‏ واستحسنهُ ابنُ الصلاحِ‏.‏

قلتُ‏:‏ الصحيحُ، بلِ الصوابُ ما ذهبَ إليهِ أهلُ الكوفةِ، لما روى مسلمٌ في ‏"‏صحيحهِ‏"‏ من حديثِ عمرَ بنِ الخطابِ، قالَ‏:‏ سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ‏:‏ «إنَّ خيرَ التابعينَ رجلٌ يقالُ لهُ‏:‏ أُويسٌ …» الحديث‏.‏ فهذا الحديثُ قاطعٌ للنِزاعِ‏.‏ وأمَّا تفضيلُ أحمدَ لابنِ المسيِّبِ وغيرِهِ فلعلَّهُ لمْ يبلغْهُ هذا الحديثُ، أوْ لَمْ يصحَّ عنهُ، أو أرادَ بالأفضليةِ‏:‏ الأفضليةَ في العلمِ لا الخيريةِ، وقدْ تقدَّمَ في ‏"‏ معرفةِ الصحابةِ ‏"‏ أنَّ الخطابيَّ نقلَ عن بعضِ شيوخهِ أنَّهُ‏:‏ كانَ يُفرِّقُ بينَ الأفضليةِ والخيريةِ، واللهُ أعلمُ‏.‏

‏[‏أفضل التابعيات‏]‏

823‏.‏ وفي نِسَاءِ التَّابِعِينَ الأَبْدَا *** حَفْصَةُ مَعْ عَمْرَةَ أُمِّ الدَّرْدَا

هذا بيانٌ لأفضلِ التابعياتِ، فقولي‏:‏ ‏(‏الأبدا‏)‏ أي‏:‏ أبداهُنَّ، بمعنى‏:‏ أولهنَّ في الفضلِ‏.‏ وقدْ روى أبو بكرِ بنُ أبي داودَ بإسنادِهِ إلى إيَّاسِ بنِ معاويةَ قالَ‏:‏ ما أدركتُ أحداً أُفَضِّلُهُ على حفصةَ، يعني‏:‏ بنتَ سيرينَ، فقيلَ لهُ‏:‏ الحسنُ وابنُ سيرينَ، فقالَ أما أنا فلا أفضِّلُ عليها أحداً‏.‏ وقالَ أبو بكرِ ابنُ أبي داودَ‏:‏ سيدتا التابعينَ من النساءِ حَفْصَةُ بنتُ سيرينَ، وعَمْرَةُ بنتُ عبدِ الرحمنِ، وثالثتُهما وليستْ كهما‏:‏ أُمُّ الدرداءِ، يريدُ الصُّغرى، واسمها هُجَيْمَةُ، ويقالُ‏:‏ جُهَيْمَةُ‏.‏ فأمَّا أُمُّ الدرداءِ الكُبْرى، فهيَ صحابيةٌ واسمها خَيْرَةٌ‏.‏

‏[‏أكابرِ التابعينَ‏]‏

824‏.‏ وَفِي الكِبَارِ الفُقَهَاءِ السَّبْعَهْ *** خَارِجَةُ القَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَهْ

825‏.‏ ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللهِ *** سَعِيدُ والسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ

826‏.‏ إمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ *** أَوْ فَأَبو بَكْرٍ خِلاَفٌ قَائِمُ

منَ المعدودينَ في أكابرِ التابعينَ، الفقهاءُ السبْعَةُ مِنْ أهلِ المدينةِ، وهمْ‏:‏ خارجةُ بنُ زيدِ بنِ ثابتٍ، والقاسمُ بنُ محمدِ بنِ أبي بكرٍ، وعروةُ بنُ الزبيرِ، وسليمانُ بنُ يسارٍ، وعبيدُ اللهِ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عتبةَ، وسعيدُ بنُ المسيِّبِ وأبو سلمةَ بنُ عبدِ الرحمنِ، فهؤلاءِ همُ الفقهاءُ السبعةُ عندَ أكثر علماءِ الحجازِ كما قالَ الحاكمُ، وجعلَ ابنُ المباركِ‏:‏ سالمَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ مكانَ أبي سلمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، فقالَ‏:‏ كانَ فقهاءُ أهلِ المدينةِ الذينَ يصدرونَ عن آرائهم سبعةً، فذكرهمْ‏.‏ وذكرَهمْ أبو الزِّنادِ، فجعلَ أبا بكرِ بنَ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ مكانَ أبي سلمةَ، أو سالِمٍ، فروى ابنهُ عبدُ الرحمنِ عنهُ، قالَ‏:‏ أدركتُ منْ فقهائنا الذينَ يُنْتَهى إلى قولِهم فذكرَهمْ، وقالَ‏:‏ همْ أهلُ فقهٍ وصلاحٍ وفضلٍ‏.‏

وقدْ بلغَ بهم يحيى بنُ سعيدٍ‏:‏ اثني عشرَ فنقصَ وزادَ، فروى عليُّ بنُ المدينيِّ عنهُ، قالَ‏:‏ فقهاءُ أهلِ المدينةِ اثنا عشرَ‏:‏ سعيدُ بنُ المسيبِ، وأبو سلمةَ والقاسمُ بنُ محمدٍ، وسالمٌ وحمزةُ وزيدٌ وعبيدُ اللهِ وبلالٌ بنو عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، وأبانُ بنُ عثمانَ بنِ عفَّانَ، وقَبِيْصةُ بنُ ذُؤَيبٍ وخارجةُ وإسماعيلُ ابنا زيدِ بنِ ثابتٍ‏.‏

‏[‏المخضرَمونَ منَ التابعينَ‏]‏

827‏.‏ والمُدْرِكُونَ جَاهِلِيَّةً فَسَمْ *** مُخَضْرَمِينَ كَسُوَيْدٍ في أُمَمْ

المخضرَمونَ منَ التابعينَ- بفتحِ الراءِ- وهمُ الذينَ أدركوا الجاهليةَ وحياةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وليستْ لهم صُحبةٌ، ولَمْ يشترطْ بعضُ أهلِ اللغةِ نفيَ الصُّحبةِ قالَ صاحبُ ‏"‏ المحكم ‏"‏‏:‏ «رَجُلٌ مُخَضْرَمٌ إذَا كَانَ نِصْفُ عُمُرِهِ في الجَاهِلِيَّةِ، ونِصْفُهُ في الإسلامِ»‏.‏ فمقتضى هذا‏:‏ أنَّ حكيمَ بنَ حزامٍ، ونحوَهُ مخضرمٌ، وليسَ كذلكَ منْ حيثُ الاصطلاحُ؛ وذلكَ لأنَّهُ مترَدِّدٌ بينَ طبقتينِ لا يُدْرى مِنْ أيتهما هوَ، فهذا هوَ مدلولُ الخَضْرَمَةِ، قالَ صاحبا ‏"‏ المحكمِ ‏"‏ و ‏"‏ الصحاحِ ‏"‏‏:‏ «لحمٌ مخضرمٌ، لا يُدْرَى مِنْ ذَكَرٍ هوَ أو ‏[‏من‏]‏ أنثى»‏.‏ انتهى، فكذلكَ المخضرمونَ مترددونَ بينَ الصحابةِ للمعاصرةِ وبينَ التابعينَ، لعدمِ الرؤيةِ، وفي كلامِ ابنِ حبَّانَ في ‏"‏ صحيحهِ ‏"‏ موافقةٌ لكلامِ صاحبِ ‏"‏ المحكمِ ‏"‏، فإنَّهُ قالَ‏:‏ «والرجلُ إذا كانَ في الكفرِ لهُ ستونَ سنةً، وفي الإسلامِ ستونَ سنةً يدعى مخضرماً»؛ لكنَّهُ ذكرَ ذلكَ عندَ ذكرِ أبي عمرٍو الشيبانيِّ، وإنَّهُ كانَ منَ المخضرمينَ فكأنَّهُ أرادَ ممَّنْ ليستْ لهُ صحبةٌ‏.‏

وحكى الحاكمُ عنْ بعضِ مشايخهِ أنَّ اشتقاقَ ذلكَ من أنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا يُخضرِمونَ آذانَ الإبلِ، أيْ‏:‏ يقطعونها؛ لتكونَ علامةً لإسلامهم إنْ أُغِيْرَ عليها أو حُورِبوا‏.‏ انتهى‏.‏ فعلى هذا يحتملُ أنْ يكونَ المخضرِمُ- بكسر الراءِ-كما حكاهُ فيهِ بعضُ أهلِ اللغةِ؛ لأنَّهم خضرموا آذانَ الإبلِ، ويحتملُ أنْ يكونَ-بالفتحِ- وأنَّهُ اقْتُطِعَ عنِ الصحابةِ وإنْ عاصرَ لعدمِ الرؤيةِ، واللهُ أعلمُ‏.‏

وذكرَ أبو موسى المدينيُّ في ‏"‏ الصحابةِ ‏"‏ نحوَ ما حكاهُ الحاكمُ عن بعضِ شيوخهِ، فقالَ فيهِ‏:‏ فسُمُّوا مخضرمينَ، قالَ‏:‏ وأهلُ الحديثِ يفتحونَ الراءَ، وأَغْرَبَ ابنُ خَلِّكانَ، فقالَ‏:‏ قدْ سُمِعَ‏:‏ محضرِمٌ- بالحاء المهملة وكسرِ الراءِ أيضاً‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏كَسُوَيْدٍ‏)‏ أيْ‏:‏ ابنَ غَفَلَةَ، ‏(‏في أممٍ‏)‏ أيْ‏:‏ في جماعاتٍ، وقدْ عدَّهم مسلمُ بنُ الحجاجِ فبلغَ بهم عشرينَ، وهم‏:‏ أبو عَمْرٍو سعدُ بنُ إياسٍ الشيبانيُّ، وسُوَيْدُ بنُ غَفَلَةَ، وشُرَيْحُ بنُ هانئ، ويُسَيْرُ بنُ عمرِو بنِ جابرٍ، وعمرُو بنُ ميمونٍ الأوديُّ، والأسودُ بنُ يزيدَ النخعيُّ، والأسودُ بنُ هلالٍ المُحَاربيُّ، والمعرورُ بنُ سُوَيدٍ، وعَبْدُ خَيْرِ بنُ يزيدَ الخَيْوَانيُّ، وشُبَيْلُ بنُ عوفٍ الأحمسيُّ، ومسعودُ بنُ خِرَاشٍ أخو رِبْعِي، ومالكُ بنُ عُميرٍ، وأبو عثمانَ النهديُّ، وأبو رجاءٍ العُطَارِديُّ، وغُنَيْمُ بنُ قَيْسٍ، وأبو رافعٍ الصائغُ، وأبو الحَلالِ العتكيُّ واسمهُ ربيعةُ بنُ زُرَارةَ، وخالدُ بنُ عُمَيْرٍ العَدَويُّ، وثُمَامَةُ بنُ حَزْنٍ القُشَيْرِيُّ، وجُبَيْرُ بنُ نُفَيرٍ الحَضْرَميُّ، وممَّنْ لمْ يذكرْهُ مسلمٌ‏:‏ أبو مسلمٍ الخَوْلانيُّ، والأحنفُ بنُ قيسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ عُكَيْمٍ، وعمرُو بنُ عبدِ اللهِ بنِ الأصمِّ، وأبو أميةَ الشَّعْبَانيُّ‏.‏

‏[‏إدخال بعض التابعينَ في أتباعِ التابعينَ‏]‏

828‏.‏ وَقَدْ يُعَدُّ في الطِّبَاقِ التَّابِعُ *** في تابِعِيهِمْ إذْ يَكُونُ الشَّائِعُ

829‏.‏ الحَمْلَ عَنْهُمْ كأَبِي الزِّنَادِ *** والعَكْسُ جَاءَ وَهْوَ ذُوْ فَسَادِ

أيْ‏:‏ قدْ يَعدُّ مَنْ صنَّفَ في الطبقاتِ بعضَ التابعينَ في أتباعِ التابعينَ؛ لكونِ الغالبِ عليهِ والشائعِ عنهُ روايتهُ عنِ التابعينَ، وحملهُ عنهم كأبي الزّنادِ عبد اللهِ بنِ ذَكْوانَ‏.‏

قالَ خليفةُ بنُ خيَّاطٍ‏:‏ طبقةٌ عدَدُهم عندَ الناسِ في أتباع التابعينَ، وقد لقوا الصحابةَ، منهم‏:‏ أبو الزِّنادِ، وقد لقيَ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ، وأنسَ بنَ مالكٍ، وأبا أُمامةَ بنَ سَهْلِ بنِ حُنَيْفِ، وقالَ الحاكمُ نحوَهُ، وزادَ أنَّهُ أُدخِلَ على جابرِ بنِ عبدِ اللهِ أيضاً‏.‏ وقالَ العِجْليُّ‏:‏ تابعيٌّ ثقةٌ سَمِعَ من أنسِ بنِ مالكٍ، وذكرهُ مسلمٌ في الطبقةِ الثالثةِ منَ التابعينَ، وكذا ذكرهُ ابنُ حبَّانَ في طبقةِ التابعينَ‏.‏

ومثَّلَ الحاكمُ أيضاً بموسى بنِ عقبةَ، فقالَ‏:‏ وقدْ أدركَ أنسَ بنَ مالكٍ، وأمَّ خالدِ بنتَ خالدِ بنِ سعيدِ بنِ العاصِ‏.‏ وقالَ ابنُ حبَّانَ‏:‏ إنَّهُ أدركَ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ، وسهلَ بنَ سعدٍ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏والعكسُ جاءَ‏)‏ أيْ‏:‏ وقدْ عدَّ بعضُهم في التابعينَ مَنْ هوَ منْ أتباعِ التابعينَ، وذلكَ صنيعٌ فاسدٌ وخطأٌ ممَّنْ صنعَهُ‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ طبقةٌ تُعَدُّ في التابعينَ، ولَمْ يصحَّ سماعُ أحدٍ منهم منَ الصحابةِ، منهم‏:‏ إبراهيمُ بنُ سويدٍ النَّخَعِيُّ، ولَمْ يدركْ أحداً منَ الصحابةِ، قالَ‏:‏ وليسَ هذا بإبراهيمَ بنِ يزيدَ النَّخَعِيِّ الفقيهِ، وبُكَيرُ بنُ أبي السَّمِيطِ، لَمْ يصحَّ لهُ عن أنسٍ روايةٌ، إنما أسقطَ قتادةَ من الوسطِ، قلتُ‏:‏ هوَ بفتحِ السينِ وكسرِ الميمِ كذا ضبطهُ ابنُ ماكولا وغيرهُ‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ وبُكَيْرُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الأشجِّ لَمْ يثبتْ سماعُهُ منِ عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ بنِ جَزْءٍ، وإنما رواياتُهُ عنِ التابعينَ‏.‏ وثابتُ ابنُ عَجْلاَنَ الأنصاريُّ، لَمْ يصحَّ سماعُهُ منِ ابنِ عباسٍ، إنما يروي عن عطاءٍ وسعيدِ بنِ جُبَيْرٍ عنِ ابنِ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الرقاشيُّ، وأخوهُ واصلٌ أبو حُرَّةَ، لم يثبتْ سماعُ واحدٍ منهما من أنسٍ‏.‏ انتهى كلامُ الحاكمِ‏.‏ وفيهِ نظرٌ منْ وجوهٍ‏:‏

الأولُ‏:‏ قولُهُ في بكيرِ بنِ الأشجِّ‏:‏ إنما رواياتُهُ عنِ التابعينَ، قلتُ‏:‏ قَدْ روى عنِ السائبِ بنِ يزيدَ، وأبي أُمامةَ أسعدَ بنِ سهلِ بنِ حُنَيْفٍ، ومحمودِ بنِ لبيدٍ، كما ذكرهُ المزيُّ وغيرهُ، وهم معدودونَ في الصحابةِ؛ ولكنْ ذكرهُ ابنُ حبانَ في أتباعِ التابعينَ‏.‏

الثاني‏:‏ ثابتُ بنُ عَجْلاَنَ، روى عن أبي أمامةَ الباهليِّ، وأنسِ بنِ مالكٍ فيما ذكرهُ المِزِّيُّ وغيرُهُ؛ ولكنْ قالَ ابنُ حبَّانَ‏:‏ ما أرى سماعهُ من أنسٍ بصحيحٍ وذكرهُ في طبقةِ أتباعِ التابعينَ أيضاً‏.‏

الثالثُ‏:‏ قولهُ سعيدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الرَّقَاشيُّ وأخوهُ‏:‏ واصلٌ أبو حُرَّةَ، وَهِمَ الحاكمُ في نسبةِ سعيدٍ أنَّهُ الرقاشيُّ، وأنَّهُ أخو أبي حُرَّةَ الرقاشيِّ، وليسَ واحدٌ منهما رقاشياً، وأبو حُرَّةَ الرقاشيُّ اسمهُ حنيفةُ‏.‏ وأما واصلٌ فليسَ بأبي حُرَّةَ الرقاشيِّ، وقدْ وَهِمَ فيهِ أيضاً عبدُ الغنيِّ المقدسيُّ في ‏"‏ الكمالِ ‏"‏ فنسبَ واصلاً أبا حُرَّةَ‏:‏ الرقاشيَّ، وغلَّطَهُ المزيُّ‏.‏ وقدْ ذكرَ ابنُ حبانَ في أتباعِ التابعينَ‏:‏ سعيدَ بنَ عبدِ الرحمنِ البصريَّ، وأخاهُ واصلاً أبا حُرَّةَ البصريَّ، وقالَ‏:‏ أمهُما بَرَّةُ مولاةٌ لبني سُلَيمٍ‏.‏

‏[‏إدخال بعض الصحابةِ في طبقةِ التابعينَ‏]‏

830‏.‏ وَقَدْ يُعَدُّ تَابِعِيَّاً صَاحِبُ *** كَابْنَي مُقَرِّنٍ ومَنْ يُقَارِبُ

قدْ يُعدُّ بعضُ الصحابةِ في طبقةِ التابعينَ، إمَّا لغلطٍ من بعضِ المصنفينَ، كما عدَّ الحاكمُ في الأخوةِ من التابعينَ النُّعْمَانَ وسُوَيْداً ابنَيْ مُقَرِّنٍ المزنيِّ، وهما صحابيانِ معروفانِ من جملةِ المهاجرينَ، كما سيأتي في نوعِ الأخوةِ والأخواتِ‏.‏ وإما لكونِ ذلكَ الصحابيِّ من صغارِ الصحابةِ، يقاربُ التابعينَ في كونِ روايتِهِ أو غَالِبِهَا عنِ الصحابةِ، كما عدَّ مسلمٌ في ‏"‏ الطبقاتِ ‏"‏ يوسفَ بنَ عبدِ اللهِ بنِ سَلاَمٍ، ومحمودَ بنَ لبيدٍ في التابعينَ، وإلى هذا الإشارة بقولي‏:‏ وَمَنْ يقاربُ، أيْ‏:‏ ومنْ يقاربُ التابعينَ في طبقتهم، واللهُ أعلمُ‏.‏

وقدْ يُعدُّ بعضُ التابعينَ في الصحابةِ وكثيراً ما يقعُ ذلكَ فيمنْ يرسلُ منَ التابعينَ، كما عدَّ محمدُ بنُ الربيعِ الجيزيُّ عبدَ الرحمنِ بنَ غَنْمٍ الأشعريَّ فيمَنْ دخلَ مصرَ من الصحابةِ، وهوَ وَهَمٌ منهُ على أنَّ الإمامَ أحمدَ قدْ أخرجَ حديثهُ في المسندِ، وذكرَ ابنُ يونسَ أيضاً‏:‏ أنَّ لهُ صحبةً‏.‏ وكذا حكى ابنُ منده عنْ يحيى بنِ بُكَيْرٍ، والليثِ، وابنِ لَهِيْعَةَ‏.‏

رِوَايةُ الأَكَابِرِ عَنِ الأَصاغِرِ

831‏.‏ وَقَدْ رَوَى الكَبِيرُ عَنْ ذِي الصُّغْرِ *** طَبَقَةً وَسِنّاً اوْ في القَدْرِ

832‏.‏ أَوْ فيهِمَا وَمِنْهُ أَخْذُ الصَّحْبِ *** عنْ تابعٍ كَعِدَّةٍ عَنْ كَعْبِ

الأصلُ في هذا البابِ روايةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن تميمٍ الداريِّ حديث الجَسَّاسَةِ، وهوَ عندَ مسلمٍ‏.‏ ثمَّ إنَّ روايةَ الأكابرِ عنِ الأصاغرِ على أضربٍ منها‏:‏

أنْ يكونَ الراوي أقدمَ طبقةً وأكبرَ سنّاً منَ المرويِّ عنهُ، كروايةِ الزُّهْرِيِّ، ويحيى بنِ سعيدٍ الأنصاريِّ، عنْ مالكِ بنِ أنسٍ‏.‏

ومنها‏:‏ أنْ يكونَ الراوي أكبرَ قدراً منَ المرويِّ عنهُ لعلمهِ وحفظهِ، كروايةِ مالكٍ، وابنِ أبي ذِئْبٍ عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، وأشباهِهِ، وروايةِ أحمدَ، وإسحاقَ عن عُبيدِ اللهِ بنِ موسى العبسيِّ‏.‏

ومنها‏:‏ أنْ يكونَ الراوي أكبرَ منَ الوجهينِ معاً، كروايةِ عبدِ الغنيِّ بنِ سعيدٍ، عن محمدِ بنِ عليٍّ الصُّوَرِيِّ، وكروايةِ أبي بكرٍ الخطيبِ، عنْ أبي نصرِ ابنِ ماكولا، ونحوِ ذلكَ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏ومنهُ أخذُ الصَّحْبِ‏)‏ أيْ‏:‏ ومنْ هذا النوعِ، وهوَ روايةُ الأكابرِ عنِ الأصاغرِ، روايةُ الصحابةِ عنِ التابعينَ، كروايةِ العبادلةِ الأربعةِ، وأبي هريرةَ، ومعاويةَ بنَ أبي سفيانَ وأنسِ بنِ مالكٍ، عنْ كعبِ الأحبارِ، وكروايةِ التابعينَ عن أتباعِ التابعينَ، كما تقدَّمَ من روايةِ الزهريِّ، ويحيى بنِ سعيدٍ عنْ مالكٍ، ومثَّلَ ابنُ الصلاحِ أيضاً بعَمْرِو ابنِ شُعَيْبٍ، فقالَ‏:‏ «لمْ يكنْ منَ التابعينَ، وروى عنهُ أكثرُ من عشرينَ نفساً منَ التابعينَ»‏.‏ هكذا قالَ‏:‏ إنَّهُ ليسَ منَ التابعينَ، وتبعَ في ذلكَ أبا بكرٍ النقاشَ، فإنَّهُ

قالَ‏:‏ لَمْ يكنْ منَ التابعينَ، وقدْ روى عنهُ عشرونَ رجلاً منَ التابعينَ، وحكاهُ عبدُ الغنيِّ ابنُ سعيدٍ، وأقرَّهُ على كونهِ ليسَ منَ التابعينَ، ثمَّ قالَ‏:‏ جمعتُهم ووجدتُ زيادةً على العشرينَ، ثمَّ عدَّهم فبلغَ بهم تسعةً وثلاثينَ رجلاً‏.‏

قلتُ‏:‏ وعمرُو بنُ شعيبٍ- وإنْ عدَّهُ غيرُ واحدٍ في أتباعِ التابعينَ- فهوَ منَ التابعينَ، فقدْ سَمِعَ مِنْ زينبَ بنتِ أبي سلمةَ، والرُّبَيِّعِ بنتِ مُعَوِّذِ بنِ عَفْراءَ ولهما صحبةٌ، وقدْ حكى المِزِّيُّ كلامَ عبدِ الغنيِّ، فجعلهُ عنِ الدارقطنيِّ، قالَ‏:‏ وكانَ الدارقطنيُّ قدْ وافقَهُ على أنَّهُ ليسَ منَ التابعينَ، وليسَ كذلكَ‏.‏ انتهى‏.‏ وقولُ ابنِ الصلاحِ‏:‏ «روى عنهُ أكثرُ من عشرينَ منَ التابعينَ جمعَهم عبدُ الغنيِّ»، ليسَ بجيدٍ، فإنَّهُ قدْ بلغَ بهمْ تسعةً وثلاثينَ رجلاً، كما تقدَّمَ‏.‏ قلتُ‏:‏ وقدْ جمعتُهم في جزءٍ فبلغتُ بهمْ فوقَ الخمسينَ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وقرأتُ بخطِّ الحافظِ أبي محمدٍ الطَّبَسيِّ‏:‏ أنَّه روى عنهُ نيفٌ وسبعونَ رجلاً منَ التابعينَ، واللهُ أعلمُ‏.‏ ومنْ فائدةِ معرفةِ روايةِ الأكابرِ عنِ الأصاغرِ تَنْزَيلُ أهلِ العلمِ منازلهم، وقدْ روى أبو داودَ من حديثِ عائشةَ قالتْ‏:‏ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ»‏.‏

رِوَايَةُ الأَقْرَانِ

833‏.‏ والقُرَنَا مَنِ اسْتَوَوْا في السَّنَدِ *** والسِّنِّ غَالِباً وقِسْمَينِ اعْدُدِ

834‏.‏ مُدَبَّجاً وَهْوَ إِذَا كُلٌّ أخَذْ *** عَنْ آخَرٍ وغيرَهُ انْفِرادُ فَذْ

القرينانِ‏:‏ مَنِ استويا في الإسنادِ والسِّنِّ غالباً، والمرادُ بالاستواءِ في ذلكَ على المقاربةِ، كما قالَ الحاكمُ‏:‏ «إنما القرينانِ إذا تقاربَ سنُّهما وإسنادهما»‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏غالباً‏)‏ متعلقٌ بالسنِّ فقطْ، إشارةٌ إلى أنَّهم قدْ يكتفونَ بالإسنادِ دونَ السنِّ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وربما اكتفى الحاكمُ بالتقاربِ في الإسنادِ، وإنْ لمْ يوجدِ التقاربُ في السنِّ»‏.‏

ثمَّ إنَّ روايةَ الأقرانِ تنقسمُ إلى قسمينِ‏:‏

أحدُهما‏:‏ ما يسمونهُ المُدَبَّجُ- بضمِّ الميمِ وفتح الدالِ المهملةِ وتشديدِ الباءِ الموحدةِ وآخرَهُ جيمٌ- وذلكَ‏:‏ أنْ يرويَ كلُّ واحدٍ منَ القرينينِ عن الآخرِ، وبذلكَ سمَّاهُ الدارقطنيُ وجمعَ فيهِ كتاباً حافلاً في مجلدٍ‏.‏

ومثالُهُ في الصحابةِ‏:‏ روايةُ أبي هريرةَ عنْ عائشةَ، وروايةُ عائشةَ عنهُ، وفي التابعينَ‏:‏ روايةُ الزهريِّ عن أبي الزبيرِ، وروايةُ أبي الزبيرِ عنهُ، وفي أتباعِ التابعينَ‏:‏ روايةُ مالكٍ عَنِ الأوزاعيِّ، وروايةُ الأوزاعيِّ عنهُ، وفي أتباعِ الأتباعِ‏:‏ روايةُ أحمدَ عنْ عليِّ بنِ المدينيِّ، وروايةُ ابنِ المدينيِّ عنهُ‏.‏ وتمثيلُ الحاكمِ هذا بأحمدَ وعبدِ الرزاقِ ليسَ بجيدٍ‏.‏

والقسمُ الثاني من روايةِ الأقرانِ‏:‏ ما ليسَ بمدبجٍ، وهو أنْ يرويَ أحدُ القرينينِ عنِ الآخرِ، ولا يروي الآخرُ عنهُ فيما يعلمُ، ومثالهُ روايةُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عنْ مِسْعَرٍ، قالَ الحاكمُ‏:‏ ولا أحفظُ لِمِسْعرٍ عن سليمانَ روايةً‏.‏ وقدْ يجتمعُ جماعةٌ منَ الأقرانِ في حديثٍ واحدٍ، كحديثٍ رواهُ أحمدُ بنُ حنبلٍ عن أبي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بنِ حَرْبٍ، عن يحيى بنِ مَعِينٍ، عن عليِّ بنِ المدينيِّ، عن عبيدِ اللهِ بنِ مُعَاذٍ، عنْ أبيهِ، عن شعبةَ، عن أبي بكرِ بنِ حفصٍ، عن أبي سلمةَ، عن عائشةَ قالتْ‏:‏ «كُنَّ أزواجُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يأخذنَ من شعورِهِنَّ حتَّى يكونَ كالوفرةِ»‏.‏ وأحمدُ والأربعةُ فوقَهُ خمستُهم أقرانٌ، كما قالَ الخطيبُ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏وقسمين‏)‏ مفعولٌ مقدَّمٌ لاعْدُدْ، و ‏(‏مدبجاً‏)‏ بدل من قسمينِ، وغيرَهُ منصوبٌ عطفاً على‏:‏ مدبجاً تقديرهُ‏.‏ واعْدُدْ ذلكَ قسمينِ مدبجاً، وغيرَ مدبجٍ، و ‏(‏انفرادُ‏)‏ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أيْ‏:‏ وهوَ انفرادُ، ‏(‏فذْ‏)‏ أيْ‏:‏ انفرادُ أحدِ القرينينِ عنِ الآخرِ‏.‏

الإِخْوَةُ والأَخَوَاتُ

835‏.‏ وَأَفْرَدُوا الأخْوَةَ بالتَّصْنِيفِ *** فَذُوْ ثَلاَثَةٍ بَنُو حُنَيْفِ

836‏.‏ أَرْبَعَةٌ أَبُوهُمُ السَّمَّانُ *** وخَمْسَةٌ أَجَلُّهُمْ سُفْيَانُ

837‏.‏ وسِتَّةٌ نَحْوُ بَنِي سِيْرِيْنَا *** واجْتَمَعُوا ثَلاَثَةً يَرْوُونا

838‏.‏ وَسَبْعَةٌ بَنُو مُقَرِّنٍ، وَهُمْ *** مُهَاجِرُونَ لَيْسَ فِيهِمْ عَدُّهُمْ

839‏.‏ وَالأَخَوَانِ جُمْلَةٌ كَعُتْبَةِ *** أَخِي ابْنِ مَسْعُودٍ هُما ذُوْ صُحْبَةِ

قدْ أفردَ أهلُ الحديثِ هذا النوعَ بالتصنيفِ، وهوَ معرفةُ الأخوةِ منَ العلماءِ

والرواةِ، فصنَّفَ فيهِ عليُّ بنُ المدينيِّ ومسلمُ بنُ الحجاجِ، وأبو داودَ والنَّسَائيُّ، وأبو العباسِ السَّرَّاجُ‏.‏

فمثالُ الأخوةِ الثلاثةِ‏:‏ سهلٌ وعبادٌ وعثمانُ بنو حُنيفٍ- مُصَغَّراً- ولا يضرُّ عندَ أهلِ العلمِ بالقوافي فتحُ نونِهِ في مقابلةِ كسرِ نونِ التصنيفِ، قالَ حسَّانُ بنُ ثابتٍ‏:‏

صَلَّى الإلَهُ عَلَى الَّذِيْنَ تَتَابَعُوْا *** يَوْمَ الرَّجِيْعِ فأُكْرِمُوا وأُثِيْبُوا

رَأْسُ السَّرِيَّةِ مَرْثَدٌ وَأَمِيْرُهُمْ *** وَابْنُ البُكَيْرِ أَمَامَهُمْ وَخُبَيْبُ

ومثالُ الأربعةِ‏:‏ أولادُ أبي صالحٍ السَّمَّانِ، وهم‏:‏ سهيلٌ ومحمدٌ وصالحٌ وعبدُ اللهِ الذي يقالُ له‏:‏ عبَّادٌ، وفي ‏"‏ الكاملِ ‏"‏ لابنِ عَدِيٍّ‏:‏ إنَّهُ ليسَ في أولادِ أبي صالحٍ مَنِ اسْمُهُ محمدٌ؛ إنما هوُ سهيلٌ وعبادٌ وعبدُ اللهِ ويحيى وصالحٌ بنو أبي صالحٍ وليسَ فيهم محمدٌ‏.‏ انتهى‏.‏ فأَبدَلَ يحيى بمحمدٍ، وجَعَلَ عَبَّاداً وعبدَ اللهِ اثنينِ، وهو وَهَمٌ، وسيجيء في فصلِ الألقابِ‏:‏ أنَّ أحمدَ ويحيى وأبا داودَ في آخرينَ، قالوا‏:‏ إنَّ عبدَ اللهِ هو عبادٌ، ومما يُستغربُ في الأخوةِ الأربعةِ بنو راشدٍ أبي إسماعيلَ السُّلَمِيِّ، وُلِدُوا في بَطْنٍ واحِدٍ وكانوا علماءَ، وهم‏:‏ محمدٌ وعمرُ وإسماعيلُ ولَمْ يسمِّ البخاريُّ والدارقطنيُّ الرابعَ، ومثالُ الخمسةِ‏:‏ سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ وأخوتُهُ‏:‏ آدمُ وعِمرانُ ومحمدٌ وإبراهيمُ، وقدْ حدثوا كلُّهُم‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏أجلُّهم‏)‏ أيْ‏:‏ في العلمِ، واقتصر ابنُ الصلاحِ على كونهِم خمسةً؛ لكونهم همُ الَّذينَ رووا، وإلاَّ فقدْ ذكرَ غيرُ واحدٍ‏:‏ أنَّ أولادَ عُيينةَ عَشْرَةٌ‏.‏

ومثالُ الستةِ‏:‏ بنو سِيْرِيْنَ، كلُّهم منَ التابعينَ، وهمْ‏:‏ محمدٌ وأنسٌ ويحيى ومَعْبَدٌ وحفصةُ وكريمةُ، هكذا سمَّاهم يحيى بنُ معينٍ، والنسائيُّ في ‏"‏ الكنى ‏"‏، والحاكمُ في‏"‏ علومِ الحديثِ ‏"‏؛ ولكنَّهُ نقلَ في ‏"‏ التاريخ ‏"‏ عن أبي عليٍّ الحافظِ تسميتَهم فزادَ فيهم خالدَ بنَ سيرينَ مكانَ كريمةَ، فاللهُ أعلمُ، وذكرَ ابنُ سعدٍ في ‏"‏ الطبقاتِ ‏"‏‏:‏ عمرةَ بنتَ سيرينَ، وسودةَ بنتَ سيرينَ، أمُهُمَا أمُّ ولدٍ كانتْ لأنسِ بنِ مالكٍ؛ ولكنْ لم أرَ مَنْ ذكرَ لهاتينِ روايةً، فلا يرِدانِ على ابنِ الصلاحِ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏واجتمعوا ثلاثةً يروونَ‏)‏ أي‏:‏ اجْتَمَعَ منهم ثلاثةٌ في إسنادِ حديثٍ واحدٍ، يروي بعضهم عن بعضٍ، وقدْ يطارحُ بذلكَ، فيقالُ‏:‏ أي ثلاثةُ أخوةٍ روى بعضُهُمْ عَنْ بعضٍ أو يُقيدُ السؤالُ بكونِهم في حديثٍ واحدٍ وذلكَ فيما رواهُ الدارقطنيُّ في كتابِ ‏"‏ العللِ ‏"‏ بإسنادهِ من رِوايةِ هشامِ بنِ حسَّانَ، عنْ محمدِ بنِ سيرينَ، عنْ أخيهِ يحيى بنِ سيرينَ، عنْ أخيهِ أنسِ بنِ سيرينَ، عنْ أنسِ بنِ مالكٍ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ‏:‏ «لَبَّيْكَ حَجَّاً حقَّاً تَعَبُّداً وَرِقّاً» وذكرَ محمدُ بنُ طاهرٍ المقدسيُّ في بعضِ تخاريجهِ‏:‏ أنَّ هذا الحديثَ رواهُ محمدُ بنُ سيرينَ عنْ أخيهِ يحيى بنِ سيرينَ، عنْ أَخيهِ معبدٍ، عنْ أخيهِ أنسِ بنِ سيرينَ‏.‏ فعلى هذا اجتمعَ منهم أربعةٌ في إسنادٍ واحدٍ، وهوَ غريبٌ‏.‏

ومثالُ السبعةِ‏:‏ بنو مُقَرِّنٍ المُزَنيِّ وَهُمْ‏:‏ النَّعْمَانُ، ومَعْقِلٌ، وعقيلٌ، وسويدٌ، وسنانٌ، وعبدُ الرحمنِ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وسابعٌ لم يسمَّ لنا‏.‏

قلتُ‏:‏ قد سمَّاهُ ابنُ فتحونَ في ‏"‏ ذيلِ الاستيعابِ ‏"‏ عبدَ اللهِ بنَ مقرنٍ، وذكرَ أنَّهُ كانَ على ميْسرةِ أبي بكرٍ في قتالِ الرِّدَّةِ، وأنَّ الطبريَّ ذكرهُ كذلكَ، وذكرَ ابنُ فتحونَ قولاً‏:‏ أنَّ بني مُقَرِّنٍ عشرةٌ، فاللهُ أعلمُ‏.‏

وذكرَ الطبريُّ أيضاً في الصحابةِ ضرارَ بنَ مقرنٍ، حضرَ فتحَ الحيرةِ، وذكرَ ابنُ عبدِ البرِّ‏:‏ ضرارَ بنَ مُقَرِّنٍ خَلَفَ أخاهُ لما قُتِلَ بنَهَاوَنْدَ‏.‏

ومثالُ السبعةِ في التابعينَ بنو عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بنِ الخطابِ، وهم‏:‏ سالمٌ، وعبدُ اللهِ، وحمزةُ، وعبيدُ اللهِ، وزيدٌ، وواقدٌ، وعبدُ الرحمنِ‏.‏

ومثالُ الأخوينِ كثيرٌ في الصحابةِ ومَنْ بعدهم، كعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وعتبةَ بنِ مسعودٍ، كلاهما صحابيٌّ‏.‏

ومما يستغربُ في الأخوينِ أنَّ موسى بنَ عُبيدةَ الرَّبَذيَّ بينهُ وبينَ أخيهِ عبدِ اللهِ ابنِ عُبيدةَ في العُمرِ ثمانونَ سنةً‏.‏

قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «ولمْ نطوِّلْ بما زادَ على السبعةِ لندرتِهِ، ولعدمِ الحاجةِ إليهِ في غرضِنا هنا»‏.‏ قلتُ‏:‏ وأكثرُ ما رأيتُ من الأخوةِ الذكورِ المشهورينَ عشرةً، ومنهم‏:‏ بنو العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ، وهمْ‏:‏ الفَضْلُ، وعبدُ اللهِ، وعبيدُ اللهِ، وعبدُ الرحمنِ، وقُثَمُ، ومعبدٌ، وعونٌ، والحارثُ، وكَثيرٌ، وتَمَّامٌ-وكانَ أصغرهمْ- وكانَ العباسُ يحملهُ ويقولُ‏:‏

تَمُّوا بِتَمَّامٍ فَصَارُوا عَشَرَهْ *** ياربِّ فاجْعَلهُمْ كِرَامَاً بَرَرَهْ

واجْعَلْ لَهُمْ ذِكْرَاً وانمِ الثَّمَرَهْ ***

وكانَ لهُ ثلاثُ إناثٍ‏:‏ أمُّ كلثومَ، وأمُّ حبيبٍ، وأميمةُ‏.‏

ومنهم بنو عبدِ اللهِ بنِ أبي طلحةَ، وقدْ سمَّاهُم ابنُ عبدِ البرِّ وغيرُهُ عشرةً وسمَّاهُم ابنُ الجوزيِّ اثني عشرَ، وهم‏:‏ القاسمُ، وعميرٌ، وزيدٌ، وإسماعيلُ، ويعقوبُ، وإسحاقُ، ومحمدٌ، وعبدُ اللهِ، وإبراهيمُ، وعمرُ، ويعمرُ، وعُمَارةُ، قالَ أبو نعيمٍ‏:‏ وكلُّهمْ حُمِلَ عنهُ العلمُ‏.‏

رِوَايَةُ الآبَاءِ عَنِ الأبْنَاءِ وَعَكْسُهُ

840‏.‏ وَصَنَّفُوا فِيمَا عَنِ ابْنٍ أَخَذَا *** أبٌ كَعَبَّاسٍ عَنِ الفَضْلِ كَذَا

841‏.‏ وائِلُ عَنْ بَكْرِ ابْنِهِ والتَّيْميْ *** عَنِ ابْنِهِ مُعْتَمِرٍ في قَوْمِ

صنَّفَ أبو بكرٍ الخطيبُ كتاباً في روايةِ الآباءِ عنِ الأبناءِ، روى فيهِ منْ حديثِ العباسِ بنِ عبدِ المطلبِ عنِ ابنِهِ الفَضْلِ‏:‏ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جَمعَ بينَ الصلاتينِ بالمُزْدَلِفَةِ»‏.‏ وذكرَ أبو الفرجِ ابنُ الجوزيِّ في كتابِ ‏"‏ التلقيحِ ‏"‏ أنَّ العباسَ روى عنِ ابنِهِ عبدِ اللهِ حديثاً‏.‏

وكذلكَ روى وائلُ بنُ داودَ عنِ ابنِهِ بكرِ بنِ وائلٍ ثمانيةَ أحاديثَ، منها في السننِ الأربعةِ حديثهُ عنِ ابنِهِ عنِ الزهريِّ عن أنسٍ‏:‏ «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أولَمَ على صَفِيَّةَ بسَوِيْقٍ وتَمْرٍ»‏.‏

ومنها‏:‏ ما رواهُ الخطيبُ منْ طريقِ ابنِ عُيَيْنَةَ عنْ وائلِ بنِ داودَ عنِ ابنِهِ بكرٍ، عنِ الزُّهريِّ، عنْ سعيدِ بنِ المسيبِ، عنْ أبي هريرةَ، قالَ‏:‏ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أَخِّرُوا الأَحمالَ فإنَّ اليدَ معلَّقةٌ، والرِّجلَ مُوثقةٌ»‏.‏ قالَ الخطيبُ‏:‏ لا يُروى عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما نعلمُهُ إلاَّ من جهةِ بكرٍ وأبيهِ‏.‏

وكذلكَ روى سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عنِ ابنِهِ مُعْتَمِرٍ حديثينِ، وقدْ روى الخطيبُ من روايةِ معتمرِ بنِ سليمانَ التَّيميِّ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي، قالَ‏:‏ حدَّثَتْنِي أنتَ عَنِّي، عنْ أيوبَ، عنِ الحسنِ، قالَ‏:‏ وَيْحٌ‏:‏ كلمةُ رحمةٍ، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «وهذا ظريفٌ يجمَعُ أنواعاً»‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏في قومٍ‏)‏ أيْ‏:‏ في جماعةٍ رووا عنْ أبنائهمْ، فروى أنسُ بنُ مالكٍ عنِ ابنِهِ غيرَ مسمَّى حديثاً، وروى زكريا بنُ أبي زائدةَ عنِ ابنِهِ حديثاً‏.‏ وروى يونسُ بنُ أبي إسحاقَ، عنِ ابنِهِ إسرائيلَ حديثاً، وروى أبو بكرِ بنُ عياشٍ عنِ ابنِهِ إبراهيمَ حديثاً‏.‏ وروى شجاعُ بنُ الوليدِ، عن ابنِهِ أبي هشامٍ الوليدِ حديثاً‏.‏ وروى عمرُ بنُ يونسَ اليماميُّ، عن ابنهِ حديثاً‏.‏ وروى سعيدُ بنُ الحكمِ المصريُّ، عنِ ابنِهِ محمدٍ حديثاً‏.‏ وروى إسحاقُ بنُ البهلولِ، عنِ ابنِهِ يعقوبَ حديثينِ‏.‏ وروى كثيرُ بنُ يعقوبَ البصريُّ، عنِ ابنِهِ يحيى حديثاً‏.‏ وروى يحيى بنُ جعفرِ بنِ أعينَ، عنِ ابنِهِ الحسينِ حديثينِ، وروى عليُّ بنُ حربٍ الطائيُّ عنِ ابنِهِ الحسنِ حديثاً‏.‏ وروى محمدُ بنُ يحيى الذُّهْليُّ، عنِ ابنِهِ يحيى حديثاً‏.‏ وروى أبو داودَ السجستانيُّ، عنِ ابنِهِ أبي بكرٍ عبدِ اللهِ حديثينِ‏.‏ وروى عليُّ بنُ الحسنِ بنِ أبي عيسى الدَّرَابجِرْديُّ، عنِ ابنِهِ الحسنِ حديثاً‏.‏ وروى الحسنُ بنُ سفيانَ، عنِ ابنِهِ أبي بكرٍ حديثينِ‏.‏ وروى أحمدُ بنُ شاهينَ، عنِ ابنِهِ محمدٍ حديثاً‏.‏ وروى أبو بكرٍ بنُ أبي عاصمٍ عنِ ابنِهِ عبدِ الرحمنِ حديثاً‏.‏ وروى عمرُ بنُ محمدٍ السمرقَنْديُّ، عنِ ابنِهِ محمدٍ حديثاً‏.‏ وروى محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ الصَّفَّارُ، عنِ ابنهِ أبي بكرٍ أبياتاً قالها‏.‏ وروى أبو الشيخِ ابنُ حيَّانَ، عنِ ابنِهِ عبدِ الرزاقِ حكايةً‏.‏ وروى الحافظُ أبو سعدِ بنُ السمعانيِّ، عنِ ابنِهِ عبدِ الرحيمِ في ذيلِ ‏"‏ تاريخِ بغدادَ ‏"‏‏.‏ وروى قاضي القضاةِ بدرُ الدينِ بنُ جماعةَ، عنِ ابنِهِ قاضي القضاةِ عزِّ الدينِ حكايةً عجيبةً‏.‏

قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وأكثرُ ما رويناهُ لأبٍ عنِ ابنِهِ، ما روينا في كتابِ الخطيبِ عنِ أبي عمرَ حفصِ بنِ عمرَ الدوريِّ المقرئ عنِ ابنِهِ أبي جعفرٍ محمدٍ‏:‏ ستةَ عشرَ حديثاً، أو نحو ذلكَ‏.‏

842‏.‏ أَمَّا أَبُو بَكْرٍ عَنِ الحَمْرَاءِ *** عَائِشَةٍ في الحَبَّةِ السَّوْدَاءِ

843‏.‏ فَإنَّهُ لاَبْنُ أَبي عَتِيقِ *** وغُلِّطَ الوَاصِفُ بالصِّدِّيقِ

قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ وأما الحديثُ الذي رويناهُ عن أبي بكرٍ الصدِّيقِ، عنْ عائشةَ، عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنَّهُ قالَ‏:‏ «في الحبَّةِ السوداءِ شفاءٌ منْ كلِّ داءٍ» فهوَ غَلَطٌ ممَّنْ رواهُ، إنما هو عن أبي بكرِ بنِ أبي عتيقٍ، عن عائشةَ، وهو عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ ابنِ أبي بكرٍ الصدِّيقِ‏.‏ قلتُ‏:‏ وهكذا رواه البخاريُّ في ‏"‏ صحيحهِ ‏"‏، وفيهِ التصريحُ بأنَّهُ ابنُ أبي عتيقٍ؛ ولكنْ ذكر ابنُ الجوزيِّ في ‏"‏ التلقيحِ ‏"‏‏:‏ أنَّ أبا بكرٍ الصدِّيقَ روى عنِ ابنتِهِ عائشةَ حديثينِ‏.‏ قالَ‏:‏ وروتْ أُمُّ رومانَ عنِ ابنتها عائشةَ حديثينِ، وأبو عتيقٍ هذا، وآباؤُهُ همُ الذينَ قالَ فيهم موسى بنُ عُقْبةَ‏:‏ لا نعلمُ أربعةً أدركوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلا هؤلاءِ الأربعةَ، فذكرَ أبا بكرٍ الصدِّيقَ وأباهُ وابنَهُ عبدَ الرحمنِ وابنَهُ محمداً أبا عتيقٍ‏.‏

844‏.‏ وَعَكْسُهُ صَنَّفَ فِيهِ الوَائِلي *** وهوَ مَعَالٍ لِلْحَفِيدِ النَّاقِلِ

صنَّفَ أبو النَّصْرِ الوائليُّ كتاباً في روايةِ الأبناءِ عنِ الآباءِ‏.‏ وروايةُ الرجلِ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ منَ المعالي، كما أخبرني الحافظُ أبو سعيدٍ خليلُ بنُ العلائيِّ بقراءتي عليهِ ببيتِ المقدسِ، قالَ‏:‏ أخبرنا محمدُ بنُ يوسفَ، قالَ‏:‏ أخبرنا الإمامُ أبو عمرِو بنُ الصلاحِ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبو المُظَفَّر عبدُ الرحيمِ بنُ الحافظِ أبي سعدٍ السمعانيِّ، عنْ عبدِ الرحمنِ ابنِ عبدِ الجبارِ الفاميِّ، قالَ‏:‏ سمعتُ أبا القاسمِ منصورَ بنَ محمدٍ العلويِّ، يقولُ‏:‏ الإسنادُ بعضُهُ عوالٍ، وبعضُهُ معالٍ‏.‏ وقولُ الرجلِ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي عن جدِّي منَ المعالي‏.‏

845‏.‏ وَمِنْ أَهَمِّهِ إذا مَا أُبْهِمَا *** الأبُ أَوْ جَدٌّ وَذَاكَ قُسِمَا

846‏.‏ قِسْمَينِ عَنْ أَبٍ فَقَطْ نَحْوَ أَبِي *** العُشَرَا عَنْ أَبِهِ عَنِ النَّبِيِّ

847‏.‏ واسْمُهُما على الشَّهيرِ فاعْلَمِ *** أُسَامَةُ بنُ مَالِكِ بنِ قِهْطَمِ

ومنْ أهمِّ هذا النوعِ، وهوَ روايةُ الأبناءِ عنِ الآباءِ، ما إذا أبهم اسمُ الأبِ أو الجدِّ، فلمْ يُسمَّ بلِ اقتُصِرَ على كونِهِ أباً للراوي، أو جداً لهُ، فيحتاجُ حينئذٍ إلى معرفةِ اسمِهِ‏.‏ وينقسمُ ذلكَ إلى قسمينِ‏:‏

أحدُهما‏:‏ أن تكونَ الروايةُ عن أبيهِ فقطْ دونَ جدِّهِ كروايةِ أبي العُشَراءِ الدارميِّ، عنْ أبيهِ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهوَ عندَ أصحابِ السننِ الأربعةِ، فإنَّ أباهُ لمْ يسمَّ في طرقِ الحديثِ، واختُلِفَ في اسمِ أبي العشراءِ، واسمِ أبيهِ على أقوالٍ‏:‏

أحدُها‏:‏ وهو الأشهرُ، كما قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ إنَّهُ أسامةُ بنُ مالكِ بنِ قِهْطمٍ وهو- بكسرِ القافِ-، فيما نقلهُ ابنُ الصلاحِ من خطِّ البيهقيِّ وغيرِهِ وقيلَ‏:‏ قِحْطَمٌ- بالحاءِ المهملةِ- موضعَ الهاءِ‏.‏

والثاني‏:‏ أنَّ اسمَهُ عُطاردُ بنُ بَرزٍ، بتقديمِ الراءِ على الزاي، واختُلِفَ في الراءِ، هلْ هيَ ساكنةٌ أو مفتوحةٌ‏؟‏ وقيلَ‏:‏ اسمُ أبيهِ بَلزٍ باللامِ مكانَ الراءِ‏.‏

والثالثِ‏:‏ اسمهُ يسارُ بنُ بلزِ بنِ مسعودٍ‏.‏

848‏.‏ وَالثَّانِ أنْ يَزِيدَ فيهِ بَعْدَهُ *** كَبَهْزٍ اوْ عَمْرٍو أبَاً أَوْ جَدَّهُ

849‏.‏ والأَكْثَرُ احْتَجُّوا بِعَمْرٍو حَمْلاَ *** لَهُ على الجَدِّ الكَبِيرِ الأَعْلَى

أيْ‏:‏ والقسمُ الثاني مِنْ روايةِ الأبناءِ‏:‏ أنْ يزيدَ فيهِ بعدَ ذكرِ الأبِ أباً آخرَ فيكونَ جَدّاً للأوَّلِ، أو يزيدَ جَدّاً للأبِ‏.‏

فمثالُ زيادةِ الأبِ‏:‏ روايةُ بهزِ بنِ حكيمٍ، عنْ أبيهِ، عنْ جدِّهِ، عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فحكيمُ‏:‏ هوَ ابنُ معاويةَ بنِ حَيْدةَ القُشَيريُّ‏.‏ فالصحابيُّ‏:‏ هوَ معاويةُ، وهوَ جدُّ بهزٍ‏.‏

ومثالُ زيادةِ الجدِّ‏:‏ روايةُ عَمْرِو بنِ شُعَيبٍ، عنْ أبيهِ، عنْ جدِّهِ، وشُعَيبٌ هو ابنُ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، فالصحابيُّ‏:‏ هوَ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو، وهوَ جدُّ شعيبٍ‏.‏

وفي البيتِ المذكورِ لفٌّ ونشرٌ وتقديمٌ وتأخيرٌ، تقديرهُ‏:‏ والثاني أنْ يزيدَ بعدَ الأبِ أباً كبهزِ بنِ حكيمٍ، أو جَدَّاً كعمرِو بنِ شعيبٍ‏.‏

ولعمرِو بنِ شعيبٍ عنْ أبيهِ عن جدِّهِ نسخةٌ كبيرةٌ قدِ اختُلِفَ في الاحتجاجِ بها على أقوالٍ‏:‏

أحدُها‏:‏ أنَّها حجةٌ مطلقاً إذا صحَّ السندُ إليهِ، قالَ البخاريُّ‏:‏ رأيتُ أحمدَ بنَ حنبلٍ، وعليَّ بنَ المدينيِّ، وإسحاقَ بنَ راهويهِ، وأبا عبيدٍ، وعامةَ أصحابنا، يحتجونَ بحديثِ عمرِو بنِ شعيبٍ، عنْ أبيهِ، عنْ جدِّهِ ما تركهُ أحدٌ منَ المسلمينَ‏.‏ قالَ البخاريُّ‏:‏ «فَمَنِ النَّاسُ بعدهم‏؟‏» زادَ في روايةٍ‏:‏ والحميديُّ‏.‏ وقالَ مرةً‏:‏ اجتمعَ عليٌّ ويحيى ابنُ معينٍ وأحمدُ، وأبو خَيثمةَ، وشيوخٌ منْ أهلِ العلمِ، فتذاكروا حديثَ عمرِو بنِ شعيبٍ فثبَّتوهُ‏.‏ وذكروا أنَّهُ حجةٌ‏.‏ ورُويَ عنْ أحمدَ ويحيى بنِ معينٍ، وعليِّ بنِ المدينيِّ، خلافُ ما نَقَلَهُ البخاريُّ عنهم، مما يقتضي تضعيفَ روايتِهِ عن أبيهِ عن جدِّهِ، وقالَ أحمدُ ابنُ سعيدٍ الدارميُّ‏:‏ «احتجَّ أصحابنا بحديثهِ»، قالَ ابنُ الصلاحِ‏:‏ «احتجَّ أكثرُ أهلِ الحديثِ بحديثهِ حملاً لمطلقِ الجدِّ على الصحابيِّ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو دونَ ابنِهِ محمدٍ والدِ شعيبٍ، لما ظهرَ لهمْ منْ إطلاقِهِ ذلكَ»‏.‏

والقولُ الثاني‏:‏ تركُ الاحتجاجِ بها، وهوَ قولُ أبي داودَ فيما رواهُ أبو عُبيدٍ الآجريُّ عنهُ قالَ‏:‏ قيلَ لهُ عمرُو بنُ شعيبٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ حجةٌ عندكَ‏؟‏ قالَ‏:‏ لا، ولا نصفَ حجَّةٍ، وروى عباسٌ الدوريُّ عن يحيى بنِ معينٍ، قالَ‏:‏ «روايتُهُ عن أبيهِ عن جدِّهِ كتابٌ» فمنْ ههنا جاءَ ضعفهُ، وقالَ ابنُ عديٍّ‏:‏ «إنَّ روايتهُ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ مرسلةٌ؛ لأنَّ جدَّهُ محمداً لا صحبةَ لهُ»‏.‏ وقالَ ابنُ حبانَ في ‏"‏ الضعفاءِ ‏"‏ بعدَ ذكرِهِ لعمرٍو‏:‏ إنَّهُ ثقةٌ إذا روى عنِ الثقاتِ غيرِ أبيهِ، وإذا روى عن أبيهِ عن جدِّهِ، فإنَّ شعيباً لَمْ يلقَ عبدَ اللهِ فيكونُ منقطعَاً، وإنْ أرادَ جدَّهُ الأدنى محمداً، فهوَ لا صحبةَ لهُ فيكونُ مرسلاً‏.‏ قلتُ‏:‏ قدْ صحَّ سماعُ شعيبٍ من عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، كما صرَّحَ بهِ البخاريُّ في ‏"‏ التاريخِ ‏"‏ وأحمدُ، وكما رواهُ الدارقطنيُّ، والبيهقيُّ في ‏"‏السنن‏"‏ بإسنادٍ صحيحٍ‏.‏

والقولُ الثالثُ‏:‏ التفرقةُ بينَ أنْ يفصحَ بِجَدِّهِ أنَّهُ عبدُ اللهِ أو لا‏.‏ وهوَ قولُ الدارقطنيُّ حيثُ قالَ‏:‏ لعمرِو بنِ شعيبٍ ثلاثةُ أجدادٍ الأدنى منهم‏:‏ محمدٌ، والأوسطُ عبدُ اللهِ، والأعلى عمرٌو‏.‏ وقدْ سمعَ-يعني‏:‏ شعيباً- من محمدٍ، ومحمدٌ لمْ يدركِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وسمعَ من جدهِ عبدِ اللهِ، فإذا بيَّنهُ وكشفهُ فهوَ صحيحٌ حينئذٍ، ولم يتركْ حديثهُ أحدٌ منَ الأئمةِ، ولمْ يسمعْ من جدِّهِ عمرٌو»‏.‏ انتهى، فإذا قالَ عن جدهِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو فهوَ صحيحٌ حينئذٍ، وكذلكَ إذا قالَ عن جدهِ، قالَ‏:‏ سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ونحوَ ذلكَ ممَّا يدلُّ على أنَّ مرادَهُ عبدُ اللهِ لا محمدٌ‏.‏ وفي السننِ عِدَّةُ أحاديثَ كذلكَ‏.‏

والقولُ الرابعُ‏:‏ التفرقةُ بينَ أنْ يستوعبَ ذكرَ آبائهِ بالروايةِ، أو يقتصرَ على أبيهِ عن جدِّهِ، فإنْ صرَّحَ بهمْ كلِّهِم، فهوَ حجةٌ، وإلاَّ فلا، وهوَ رأيُ أبي حاتمِ بنِ حبَّانَ البُستيِّ، وروى في ‏"‏ صحيحهِ ‏"‏ لهُ حديثاً واحداً، هكذا عن عمرِو بنِ شعيبٍ، عنْ أبيهِ، عنْ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، عنْ أبيهِ مرفوعاً‏:‏ «ألاَ أُحَدِّثُكُمْ بأَحَبِّكمْ إليَّ وأقْرَبِكُمْ مِنِّي مجلساً يومَ القيامةِ‏؟‏ … الحديث»‏.‏

قالَ الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ في كتابِ ‏"‏ الوَشِي المُعَلَّمِ ‏"‏ فيما قرأتُهُ عليهِ ببيتِ المقدسِ ما جاءَ فيهِ التصريحُ بروايةِ محمدٍ عن أبيهِ في السندِ، فهوَ شاذٌّ نادرٌ، قالَ‏:‏ وذكرَ بعضُهم أنَّ محمداً ماتَ في حياةِ أبيهِ، وأنَّ أباهُ كَفَلَ شعيباً، وربَّاهُ ثمَّ قالَ شيخُنا‏:‏ ولَمْ يذكرْ أحدٌ منَ المتقدمينَ محمداً في كتابِهِ، ولا ترجمَ لهُ‏.‏ قلتُ‏:‏ قدْ ترجمَ لهُ ابن يونسَ في ‏"‏ تاريخِ مصرَ ‏"‏، وابنُ حبانَ في ‏"‏ الثقاتِ ‏"‏، قالَ ابنُ يونسَ‏:‏ روى عن أبيهِ، وروى عنهُ حكيمُ بنُ الحارثِ الفهميُّ في أخبارِ سعيدِ بنِ عفيرٍ، وابنهُ شعيبُ بنُ محمدٍ‏.‏ والقولُ الأولُ أصحُّ‏.‏ والضميرُ في قولي‏:‏ ‏(‏حملاً لهُ‏)‏، يعودُ إلى جدِّهِ المذكورِ في آخرِ البيتِ قبلهُ‏.‏

850‏.‏ وَسَلْسَلَ الآبَا التَّمِيمِيُّ فَعَدّْ *** عَنْ تِسْعَةٍ قُلْتُ‏:‏ وَفَوْقَ ذَا وَرَدْ

روى عبدُ الوهابِ التميميُّ عنْ آبائهِ حتَّى عدَّ تسعةَ آباءٍ؛ وذلكَ فيما رويناهُ في

تاريخِ الخطيبِ ‏"‏ قالَ‏:‏ حدثنا عبدُ الوهابِ بنُ عبدِ العزيزِ بنِ الحارثِ بنِ أسدِ بنِ الليثِ بنِ سليمانَ بنِ الأسودِ بنِ سفيانَ بنِ يزيدَ بنِ أُكَيْنَةَ ابنِ عبدِ اللهِ التميميُّ من لفظهِ، قالَ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي يقولُ‏:‏ سمعتُ عليَّ بنَ أبي طالبٍ، وقدْ سُئِلَ عن الحنَّانِ المنَّانِ، فقالَ الحنَّانُ‏:‏ هوَ الذي يُقبِلُ على مَنْ أعرضَ عنهُ، والمنَّانُ‏:‏ الذي يبدأُ بالنوالِ قبلَ السؤالِ‏.‏ قالَ الخطيبُ بينَ أبي الفرجِ- يعني‏:‏ عبدَ الوهابِ- وبينَ عليٍّ في هذا الإسنادِ تسعةُ آباءٍ آخرُهم أُكَينةُ بنُ عبدِ اللهِ، وهو الذي ذكرَ أنَّهُ سمعَ عليَّاً رضي الله عنه‏.‏

وقدِ اقتصرَ ابنُ الصلاحِ فيما ذكرهُ منَ التسلسلِ بالآباءِ على هذا العددِ، وهوَ تسعةٌ، وقدْ وردَ التسلسلُ بأكثرَ منْ ذلكَ من هذا الوجهِ ومنْ غيرِهِ‏:‏

فأمَّا منْ هذا الوجهِ فوردَ التسلسلُ فيهِ باثني عشرَ أباً في حديثٍ مرفوعٍ من طريقِ رزقِ اللهِ بنِ عبدِ الوهابِ التميميِّ المذكورِ‏.‏ أخبرنا بهِ جماعةٌ منهم‏:‏ شيخنا العلامةُ برهانُ الدينِ إبراهيمُ بنُ لاجينَ الرشيديُّ قالَ‏:‏ أخبرنا أحمدُ بنُ محمدِ بنِ إسحاقَ الأبرقوهيُّ، قالَ‏:‏ أخبرنا أبو بكرٍ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ القلانسيُّ قراءةً عليهِ، وأنا حاضرٌ بشيرازَ، أخبرنا عبدُ العزيزِ بنُ منصورِ بنِ محمدٍ الآدميُّ قالَ‏:‏ حدثنا رزقُ اللهِ بنُ عبدِ الوهابِ التميميُّ، قالَ‏:‏ سمعتُ أبي-أبا الفرجِ عبدَ الوهابِ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي-أبا الحسنِ عبدَ العزيزِ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- أبا بكرٍ الحارثَ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- أسداً- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- الليثَ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- سليمانَ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- الأسودَ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- سفيانَ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- يزيدَ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- أكينةَ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- الهيثمَ- يقولُ‏:‏ سمعتُ أبي- عبدَ اللهِ- يقولُ‏:‏ سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ‏:‏ «ما اجتمعَ قومٌ على ذكرٍ إلاَّ حفَّتهمُ الملائكةُ وغَشِيَتْهمُ الرحمةُ»‏.‏

قالَ الحافظُ أبو سعيدٍ العلائيُّ في ‏"‏ الوشي المُعَلَّمِ ‏"‏ فيما قُرِئَ عليهِ وأنا أسمعُ‏:‏ هذا إسنادٌ غريبٌ جَدّاً، ورزقُ اللهِ كانَ إمامَ الحنابلةِ في زمانِهِ من الكبارِ المشهورينَ متقدماً في عدةِ علومٍ، ماتَ سنةَ ثمانٍ وثمانينَ وأربعمائة، وأبوهُ أبو الفرجِ إمامٌ مشهورٌ أيضاً؛ ولكنَّ جدَّهُ عبدَ العزيزِ مُتَكَلَّمٌ فيهِ كثيراً، على إمامتهِ، واشتهرَ بوضعِ الحديثِ، وبقيةُ آبائهِ مجهولونَ لا ذكرَ لهمْ في شيءٍ منَ الكتبِ أصلاً، وقدْ تخبَّطَ فيهم عبدُ العزيزِ أيضاً بالتغييرِ، أيْ‏:‏ فزادَ في الثاني أباً لأكينةَ، وهوَ الهيثمُ، وجعَلَهُ منْ روايتِهِ عنْ أبيهِ عبدِ اللهِ وجعلَهُ صحابياً فحصلَ التسلسلُ في هذا باثني عشرَ أيضاً‏.‏ وقدْ وجدْتُ التسلسلَ في عدةِ أحاديثَ، بأربعةَ عشرَ أباً من طريقِ أهلِ البيتِ، منها ما رواهُ الحافظُ أبو سعدٍ ابنُ السمعانيِّ في ‏"‏ الذيلِ ‏"‏ قالَ‏:‏ أخبرنا أبو شجاعٍ عمرُ بنُ أبي الحسنِ البِسْطاميُّ الإمامُ بقراءتي عليهِ، وأبو بكرٍ محمدُ بنُ عليِّ بنِ ياسرٍ الجَيَّانيُّ من لفظهِ، قالا‏:‏ حدثنا السَّيِّدُ أبو محمدٍ الحسينُ بنُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ من لفظهِ ببلخَ، قالَ حدَّثني سيدي والدي أبو الحسنِ عليُّ بنُ أبي طالبٍ سنةَ ستٍ وستينَ وأربعمائةٍ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي- أبو طالبٍ- الحسنُ بنُ عبيدِ اللهِ سنةَ أربعٍ وثلاثينَ وأربعمائةٍ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي والدي أبو عليٍّ عبيدُ اللهِ بنُ محمدٍ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي- محمدُ بنُ عبيدِ اللهِ- قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي عبيدُ اللهِ بنُ عليٍّ، قالَ حَدَّثَنِي أبي عليُّ بنُ الحسنِ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي- الحسنُ بنُ الحسينِ- قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي- الحسينُ بنُ جعفرٍ، وهوَ أولُ مَنْ دخلَ بلخَ من هذهِ الطائفةِ قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي- جعفرٌ الملقبُ بالحجةِ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي- عبيدُ اللهِ-، قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي- الحسينُ الأصغرُ-، قالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي- عليُّ بنُ الحسينِ بنِ عليٍّ، عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ عليٍّ رضي الله عنه قالَ‏:‏ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليسَ الخبرُ كالمُعَاينةِ»‏.‏ وهذا أكثرُ ما وقعَ لنا في عدةِ التسلسلِ بالآباءِ، واللهُ أعلمُ‏.‏

السَّابِقُ واللاَّحِقُ

851‏.‏ وَصَنَّفُوا في سَابِقٍ وَلاَحِقِ *** وَهْوَ اشْتِرَاكُ رَاوِيَيْنِ سَابِقِ

852‏.‏ مَوْتَاً كَزُهْرِيٍّ وَذِي تَدَارُكِ *** كَابْنِ دُوَيْدٍ رَوَيَا عَنْ مَالِكِ

853‏.‏ سَبْعَ ثَلاَثُونَ وَقَرْنٍ وَافِي *** أُخِّرَ كَالجُعْفِيِّ وَالخَفَّافِ

صنَّفَ الخطيبُ كتاباً سمَّاهُ ‏"‏ السَّابق واللاَّحق ‏"‏، وموضوعُهُ‏:‏ أنْ يشتركَ راويانِ في الروايةِ عنْ شخصٍ واحدٍ، وأحدُ الراوِيَيْنِ متقدِّمٌ، والآخرُ متأخِّرٌ، بحيثُ يكونُ بينَ وفاتيهما أمدٌ بعيدٌ‏.‏ قالَ ابنُ الصَّلاَحِ‏:‏ ومِنْ فوائدِ ذلكَ تقريرُ حلاوةِ علوِّ الإسنادِ في القلوبِ‏.‏ ومثالُ ذلكَ‏:‏ أنَّ الإمامَ مالكَ بنَ أنسٍ روى عنهُ أبو بكرٍ الزهريُّ أحدُ شيوخهِ، وروى عنهُ أيضاً زكريا بنُ دُوَيْدٍ الكِنديُّ، وقدْ تأخرتْ وفاةُ زكريا ابنِ دُوَيْدٍ بعدَ موتِ الزهريِّ مائةً وسبعاً وثلاثينَ سنةً أو أكثر، فإنَّ وفاةَ الزهريِّ في سنةِ أربعٍ وعشرينَ ومائةٍ، وتأخَّرَ زكريا بنُ دُوَيْدٍ إلى سنةِ نيفٍ وستينَ ومائتينِ، قلتُ‏:‏ هكذا مثَّلَ ابنُ الصَّلاَحِ تبعاً للخطيبِ بزكريا بنِ دُوَيْدٍ، وهوَ وإنْ كانَ روى عنْ مالكٍ، فإنّهُ أحدُ الكذَّابينَ قالَ ابنُ حِبَّانَ‏:‏ «كانَ يضعُ الحديثَ، بلْ زادَ وادَّعى أنَّهُ سَمِعَ منْ حُميدٍ الطويلِ، وروى عنهُ نسخةً موضوعةً»‏.‏ فلا ينبغي حينَئذٍ أنْ يُمَثَّلَ بهِ والصوابُ‏:‏ أنَّ آخرَ أصحابِ مالكٍ أحمدُ بنُ إسماعيلَ السهميُّ، كما قالهُ المزيُّ، وكانتْ وفاةُ السهميِّ سنةَ تسعٍ وخمسينَ ومائتينِ؛ فيكونُ بينهُ وبينَ وفاةِ الزهريِّ مائةٌ وخمسٌ وثلاثونَ سنةً، والسهميُّ وإنْ كانَ ضعيفاً أيضاً فإنَّ أبا مصعبٍ شَهِدَ لهُ أنَّهُ كانَ يحضرُ معهم العَرْضَ على مالكٍ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏أخِّر‏)‏ أي‏:‏ ابْنَ دُوَيْدٍ، وقولي‏:‏ ‏(‏كالجُعْفِيِّ والخَفَّافِ‏)‏ أيْ‏:‏ كما تقدمتْ وفاةُ محمدِ بنِ إسماعيلَ الجعفيِّ البخاريِّ على وفاةِ أبي الحسينِ أحمدَ بنِ محمدٍ الخفافِ النيسابوريِّ، بهذا المقدارِ، وهوَ مائةٌ وسبعٌ وثلاثونَ سنةً‏.‏ وقدِ اشتركا في الروايةِ عنْ أبي العباسِ محمدِ بنِ إسحاقَ السَّرَّاجِ، فروى عنهُ البخاريُّ في ‏"‏تاريخهِ‏"‏ وآخرُ مَنْ روى عنِ السَّرَّاجِ الخفَّافُ، وتوفيَ البخاريُّ سنةَ سِتٍّ وخمسينَ ومائتينِ، وتوفيَ الخفافُ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ وثلاثمائةٍ، ومن أمثلةِ ذلكَ في زمانِنَا‏:‏ أنَّ الفخرَ بنَ البخاريِّ سمعَ منهُ الزكيُّ عبدُ العظيمِ المنذريُّ، وروى عنهُ جماعةٌ موجودونَ بدمشقَ في هذهِ السنةِ، وهي سنةُ إحدى وسبعينَ وسبعمائةٍ، منهم‏:‏ عمرُ بنُ الحسنِ بنِ مَزيدٍ المزيُّ، ونجمُ الدينِ ابنُ النجمِ، وصلاحُ الدينِ إمامُ مدرسةِ الشيخِ أبي عمرَ، وقدْ توفيَ الزكيُّ عبدُ العظيمِ سنةَ سِتٍّ وخمسينَ وستمائةٍ‏.‏

مَنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلاَّ رَاوٍ وَاحِدٌ

854‏.‏ وَمُسْلِمٌ صَنَّفَ فِي الوُحْدَانِ *** مَنْ عَنْهُ رَاوٍ وَاحِدٌ لاَ ثانِ

855‏.‏ كَعَامِرِ بْنِ شَهْرٍ اوْ كَوَهْبِ *** هُوَ ابْنُ خَنْبَشٍ وَعَنْهُ الشَّعْبِي

856‏.‏ وَغُلِّطَ الحَاكِمُ حَيْثُ زَعَمَا *** بأنَّ هَذَا النَّوْعَ لَيْسَ فِيْهِمَا

857‏.‏ فَفِي الصَّحِيحِ أخْرَجَا المُسَيِّبَا *** وأخْرَجَ الجُعْفِيُّ لابْنِ تَغْلِبَا

منْ أنواعِ علومِ الحديثِ معرفةُ مَنْ لم يروِ عنهُ إلا راوٍ واحدٌ منَ الصحابةِ والتابعينَ ومَنْ بَعدهمْ، وصَنَّفَ فيهِ مسلمٌ كتابَهُ المسمَّى بكتابِ ‏"‏ المنفرداتِ والوُحْدانِ ‏"‏، وعندي بهِ نسخةٌ بخطِّ محمدِ بنِ طاهرٍ المقدسيِّ، ولمْ يرهُ ابنُ الصَّلاَحِ كما ذكرَ‏.‏

ومثالُهُ في الصحابةِ‏:‏ عامرُ بنُ شهرٍ الهمدانيُّ، ووَهْبُ بنُ خَنْبشٍ الطائيُّ، عدادهما في أهلِ الكوفةِ، تفرَّدَ الشَّعبيُّ بالروايةِ عنْ كلِّ واحدٍ منهما فيما ذكرهُ مسلمٌ وغيرُهُ‏.‏ وحديثُ عامرِ بنِ شَهْرٍ في السننِ لأبي داودَ، وهوَ وإنِ انفردَ عنهُ الشعبيُّ، فهوَ مذكورٌ في السِّيَرِ، فقدْ ذكرَ سيفٌ، عَنْ طلحةَ الأعلمِ، عنْ عكرمةَ، عنِ ابنِ عباسٍ‏:‏ أنَّ أوَّلَ مَنِ اعترضَ على الأسودِ العَنْسِيِّ وكابرَهُ عامرُ بنُ شَهْرٍ في ناحيتهِ، وكانَ أحدَ عُمَّالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على اليمنِ، وحديثُ وَهْبِ بنِ خَنْبَشٍ عندَ النسائيِّ وابنِ ماجه‏.‏ ووقعَ عندَ ابنِ ماجه في روايةٍ لهُ‏:‏ هَرِمُ بنُ خَنْبَشٍ، وكذا ذكرهُ الحاكمُ في ‏"‏علومِ الحديثِ‏"‏ وتبعهُ أبو نعيمٍ في ‏"‏ علومِ الحديثِ ‏"‏ لهُ أيضاً‏.‏ قالَ ابنُ الصَّلاَحِ‏:‏ «وذلكَ خطأٌ»‏.‏ قالَ المزيُّ‏:‏ «ومَنْ قالَ‏:‏ وهبٌ أكثرُ وأحفظُ‏؟‏»‏.‏ وقدْ مثَّلَ ابنُ الصَّلاَحِ ذلكَ بأمثلةٍ في الصحابةِ والتابعينَ، وعليهِ في كثيرٍ منها اعتراضٌ أوضحتها في كتابٍ مفردٍ يتعلقُ بكتابِ ابنِ الصَّلاَحِ‏.‏

وقد زعمَ الحاكمُ في كتابهِ ‏"‏ المدخل إلى كتابِ الإكليلِ ‏"‏ بأنَّ أحداً من هذا القبيلِ لم يخرِّجْ عنهُ البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحهما‏.‏ وأشرتُ إلى ذلكَ بقولي‏:‏ ‏(‏ليسَ فيهما‏)‏ أي‏:‏ ليسَ في الصحيحينِ‏.‏ وتبعهُ على ذلكَ البيهقيُّ فقالَ في كتابِ الزكاةِ من ‏"‏ سننه ‏"‏ عندَ ذكرِ حديثِ بهزٍ عنْ أبيهِ عنْ جدِّهِ‏:‏ «ومَنْ كتمها فإنَّا آخذُوها وشطرَ مالِهِ …» الحديث‏.‏ ما نصّهُ‏:‏ «فأما البخاريُّ ومسلمٌ فإنهما لم يخرجاهُ جرياً على عادتهما في أنَّ الصحابيَّ أو التابعيَّ إذا لَمْ يكنْ لهُ إلاَّ راوٍ واحدٌ لَمْ يخرّجا حديثَهُ في الصحيحينِ…إلى آخرِ كلامِهِ»، وغلَّطَ الحاكمَ في ذلكَ جماعةٌ منهم‏:‏ محمدُ بنُ طاهرٍ والحازميُّ‏.‏ ونُقِضَ ذلكَ عليهِ بأنَّهما أخرجا حديثَ المسيِّبِ بنِ حَزْنٍ في وفاةِ أبي طالبٍ معَ أنَّهُ لا راويَ لهُ غيرُ ابنِهِ سعيد بنِ المسيِّبِ‏.‏ وكذلكَ أخرجَ أبو عبدِ اللهِ الجعفيُّ البخاريُّ حديثَ عمرِو بنِ تَغْلِبَ مرفوعاً‏:‏ «إنَّي لأعطي الرَّجُلَ، والذي أدعُ أحبُّ إليَّ»‏.‏ ولم يَروِ عن عمرِو بنِ تَغْلِبَ سوى الحسنِ البصريِّ، فيما قالهُ مسلمٌ في كتابِ ‏"‏ الوُحْدانِ ‏"‏، والحاكمُ في ‏"‏ علومِ الحديثِ ‏"‏ وغيرُهما‏.‏ وقالَ ابنُ عبدِ البرِّ‏:‏ إنَّهُ روى عنهُ أيضاً الحكمُ ابنُ الأعرجِ، ولم أرَ لهُ روايةً عنهُ في شيءٍ من طرقِ أحاديثِ عَمْرِو بنِ تغلبَ؛ فلذلكَ مثلتُ بهِ، ومثَّلَ ابنُ الصَّلاَحِ بأمثلةٍ في الصحيحِ، عليهِ فيها مؤاخذاتٌ فتركتُها‏.‏

مَنْ ذُكِرَ بِنُعُوتٍ مُتَعَدِّدةٍ

858‏.‏ وَاعْنِ بِأَنْ تَعْرِفَ مَا يَلْتَبِسُ *** مِنْ خَلَّةٍ يُعْنَى بِهَا المُدَلِّسُ

859‏.‏ مِنْ نَعْتِ رَاوٍ بِنُعُوتٍ نَحْوَ مَا *** فُعِلَ في الكَلْبِيِّ حَتَّى أُبْهِمَا

860‏.‏ مُحَمَّدُ بْنُ السَّائِبِ العَلاَّمَهْ *** سَمَّاهُ حَمَّاداً أبُو أُسَامَهْ

861‏.‏ وَبِأَبِي النَّضْرِ بنِ إِسْحَاقَ ذَكَرْ *** وبِأَبي سَعِيدٍ العَوْفِيْ شَهَرْ

هذا النوعُ لبيانِ مَنْ ذُكِرَ منَ الرواةِ بأنواعٍ منَ التعريفاتِ منَ الأسماءِ، أو الكُنى، أو الألقابِ، أو الأنسابِ‏:‏ أما مِنْ جماعةٍ مِنَ الرواةِ عنهُ يعرفهُ كلُّ واحدٍ بغيرِ ما عرفَهُ الآخرُ، أو مِنْ راوٍ واحدٍ عنهُ، فيعرِّفُهُ مرةً بهذا، ومرةً بذاكَ، فيلتبسُ ذلكَ على مَنْ لا معرفةَ عندهُ، بلْ على كثيرٍ منْ أهلِ المعرفةِ والحفظِ، وإنَّما يفعلُ ذلكَ كثيراً المدلِّسونَ‏.‏

وقدْ تقدَّم عندَ ذكرِ التدليسِ أنَّ هذا أحدُ أنواعِ التدليسِ ويسمى‏:‏ ‏"‏ تدليسَ الشيوخِ ‏"‏، وقدْ صَنَّفَ في ذلكَ الحافظُ عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ الأزديِّ كتاباً نافعاً سمَّاهُ ‏"‏ إيضاح الإشكالِ ‏"‏ عندي بهِ نسخةٌ‏.‏ وصنَّفَ فيهِ الخطيبُ البغداديُّ كتاباً كبيراً سمَّاهُ‏:‏ ‏"‏ المُوضِح لأوهامِ الجمعِ والتَّفريقِ ‏"‏، بدأَ فيهِ بأوهامِ البخاريِّ في ذلكَ، وهوَ عندي بخطِّ الخطيبِ‏.‏

فمنْ أمثلةِ ذلكَ‏:‏ ما فعلهُ الرواةُ عنِ محمَّدِ بنِ السَّائبِ الكَلْبيِّ العلاَّمةِ في الأنسابِ، أحدِ الضعفاء، فقدْ روى عنهُ‏:‏ أبو أسامةَ حمادُ بنُ أسامةَ فَسمَّاهُ‏:‏ حمَّادَ بنَ السائبِ وروى عنهُ‏:‏ محمدُ بنُ إسحاقَ بنِ يسارٍ فسمَّاهُ مرةً، وكنَّاهُ مرةً‏:‏ بأبي النضرِ، ولم يسمِّهِ‏.‏ وروى عنهُ‏:‏ عَطِيَّةُ العَوْفيُّ فكنَّاهُ‏:‏ بأبي سعيدٍ، ولمْ يسمِّهِ‏.‏ فأما روايةُ أبي أسامةَ عنهُ، فرواها عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ عنْ حمزةَ بنِ محمدٍ، هوَ الكنانيُّ الحافظُ، بسندهِ إلى أبي أسامةَ، عنْ حَمَّادِ بنِ السائبِ، قالَ‏:‏ حدثنا إسحاقُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ الحارثِ، عنِ ابنِ عباسٍ مرفوعاً‏:‏ «ذكاةُ كلِّ مَسْكٍ دِبَاغُهُ»‏.‏ ثمَّ قالَ‏:‏ «قالَ لنا حمزةُ بنُ محمدٍ‏:‏ لا أعلمُ أحداً روى هذا الحديثَ عنْ حمادِ بنِ السائبِ غيرَ أبي أسامةَ، وحمادٌ هذا ثقةٌ كوفيٌّ، ولهُ حديثٌ آخرُ عنْ أبي إسحاقَ عن أبي الأحوصِ، عنْ عبدِ اللهِ في التشهدِ»، قالَ عبدُ الغنيِّ‏:‏ ثمَّ قدمَ علينا الدارقطنيُّ، فسألتهُ عن هذا الحديثِ، وعنْ حمادِ بنِ السائبِ، فقالَ لي‏:‏ الذي روى عنهُ أبو أسامةَ، هوَ محمدُ بنُ السائبِ الكلبيُّ إلاَّ أنَّ أبا أسامةَ كانَ يُسمِّهِ حماداً‏.‏ قالَ عبدُ الغنيِّ‏:‏ فَتَبَيَّنَ لي أنَّ حمزةَ قدْ وَهِمَ من وجهينِ‏:‏

أحدهما‏:‏ أنْ جعلَ الرجلينِ واحداً‏.‏

والآخر‏:‏ أنْ وثَّقَ مَنْ ليسَ بثقةٍ؛ لأنَّ الكلبيَّ عندَ العلماءِ غيرُ ثقةٍ، قالَ عبدُ الغنيِّ‏:‏ ثمَّ إنِّي نظرتُ في كتابِ ‏"‏ الكنى ‏"‏ لأبي عبدِ الرحمنِ النَّسَوِيِّ، فوجدتُهُ قدْ وَهِمَ فيهِ وَهَمَاً أقبحَ مِنْ وَهَمِ حمزةَ، رأيتُهُ قدْ أخرجَ هذا الحديثِ عنْ أحمدَ بنِ عليٍّ، عنْ أبي مَعْمَر، عنْ أبي أسامةَ حمادِ بنِ السائبِ، وإنما هوَ عنْ حمَّادِ ابنِ السائبِ، فأسقطَ قولَهُ‏:‏ عنْ، وخفيَ عليهِ أنَّ الصوابَ عنْ أبي أسامةَ حمَّادِ ابنِ أسامةَ، وأنَّ حمادَ بنَ السائبِ هوَ الكلبيُّ، قالَ عبدُ الغنيِّ‏:‏ والدليلُ على صحةِ قولِ الدارقطنيِّ‏:‏ أنَّ عيسى بنَ يونسَ رواهُ عنِ الكلبيِّ مصرِّحاً بهِ غيرَ مخفيهِ‏.‏ انتهى‏.‏ وأما روايةُ ابنِ إسحاقَ عنهُ، فقالَ البخاريُّ في ‏"‏ التاريخ الكبير ‏"‏‏:‏ «روى محمدُ بنُ إسحاقَ عن أبي النَّضْرِ، وهوَ الكلبيُّ»، قالَ الخطيبُ- فيما قرأتُ بخطِّهِ-‏:‏ وهذا القولُ صحيحٌ‏.‏- قالَ-‏:‏ فأمَّا روايةُ ابنِ إسحاقَ، عنِ الكلبيِّ التي كنَّاهُ فيها، ولمْ يسمِّهِ ثمَّ رواها بإسنادِهِ إلى محمدِ بنِ إسحاقَ، عنْ أبي النَّضْرِ، عنْ بَاذَانَ عنِ ابنِ عباسٍ، عنْ تميمٍ الدَّاريِّ في هذهِ الآيةِ‏:‏ ‏{‏يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا شَهَدَةُ بَيْنِكُمُ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ‏}‏ وقِصَّةِ جَامِ الفِضَّةِ‏.‏

وأما روايةُ عطيةَ العوفيِّ عنهُ، فروى الخطيبُ- فيما قرأتُ بخطِّهِ- في كتابِ ‏"‏الموضح‏"‏ قالَ‏:‏ أخبرنا أبو سعيدٍ الصيرفيُّ، قالَ‏:‏ حَدَّثَنَا محمدُ بنُ يعقوبَ الأصمُّ، قالَ‏:‏ حدثنا عبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ، قالَ‏:‏ حدثنا‏:‏ أبي، قالَ‏:‏ بلغني أنَّ عطيةَ كانَ يأتي الكلبيَّ، فيأخذُ عنهُ التفسيرَ، قالَ‏:‏ وكانَ يُكَنِّيْهِ بأبي سعيدٍ، فيقولُ‏:‏ قالَ أبو سعيدٍ، وكانَ هُشَيْمٌ يضعِّفُ حديثَ عطيةَ، وقالَ عبدُ اللهِ‏:‏ حَدَّثَنِي أبي، قالَ‏:‏ حدثنا أبو أحمدَ الزُّبَيْرِيُّ، قالَ‏:‏ سمعتُ سُفْيَانَ الثوريَّ، قالَ‏:‏ سمعتُ الكلبيَّ، قالَ كنَّاني عطيةُ أبا سعيدٍ، قالَ الخطيبُ‏:‏ إنما فعلَ ذلكَ ليوهمَ الناسَ أنَّهُ إنما يروي عن أبي سعيدٍ الخدريِّ‏.‏ انتهى‏.‏

قلتُ‏:‏ وممَّا دُلِّسَ بهِ الكلبيُّ ممَّا لم يذكرهُ ابنُ الصَّلاَحِ تكنيتُهُ بأبي هِشَامٍ، وقد بَيَّنَهُ الخطيبُ فقالَ- فيما قرأتُ بخطِّهِ-‏:‏ وهوَ أبو هشامٍ الذي روى عنهُ القاسمُ بنُ الوليدِ الهمدانيُّ، وكانَ للكلبيِّ ابنٌ يسمَّى هشاماً، فكنَّاهُ القاسمُ بهِ في روايتهِ عنهُ ثمَّ روى بإسنادِهِ إلى القاسمِ بنِ الوليدِ، عنْ أبي هشامٍ، عنْ أبي صالحٍ عنِ ابنِ عباسٍ، قالَ‏:‏ لمَّا نزلتْ ‏]‏ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً ‏[‏ فذكرَ الحديثَ‏.‏ ثمَّ روى وِجَادةً إلى ابنِ أبي حاتمٍ أنَّهُ سألَ أباهُ عن هذا الحديثِ، فقالَ‏:‏ أبو هِشَامٍ هوَ الكلبيُّ، وكانَ كنيتُهُ أبو النضرِ، وكانَ لهُ ابنٌ يقالُ لهُ‏:‏ هشامُ بنُ الكلبيِّ، صاحبُ نحوٍ وعربيةٍ، فكنَّاهُ بهِ‏.‏ قالَ‏:‏ وهوَ محمدُ بنُ السائبِ بنِ بِشْرٍ الذي روى عنهُ ابنُ إسحاقَ‏.‏ وقدْ وَهِمَ البخاريُّ في التفريقِ بينهُ وبينَ الكلبيِّ؛ لأنَّهُ رجلٌ واحدٌ، بيَّنَ نسبَهُ محمدُ بنُ سعدٍ، وخليفةُ بنُ خياطٍ‏.‏

وقولي‏:‏ ‏(‏واعْنِ‏)‏ أي‏:‏ اجعلْهُ من عنايتِكَ، وقدْ تقدَّمَ قبلَ هذا نقلاً عن الهرويِّ وغيرهِ، أنَّهُ يقالُ‏:‏ عُنِيَ بكذا وعَنِيَ بهِ، والخَلةُ‏:‏ بفتح الخاءِ المعجمةِ‏:‏ الخَصْلةُ‏.‏

أَفْرَادُ العَلَمِ

862‏.‏ وَاعْنِ بِالافْرَادِ سُماً أو لَقَبَا *** أوْ كُنْيَةً نَحْوَ لُبَيِّ بْنِ لَبَا

863‏.‏ أوْ مِنْدَلٍ عَمْرٌو وَكَسْراً نَصُّوا *** في المِيمِ أوْ أَبِي مُعَيْدٍ حَفْصُ

العَلَمُ‏:‏ هوَ ما يعرفُ بهِ مَنْ جُعِلَ علامةً عليهِ منَ الأسماءِ والكُنَى والألقابِ فالاسمُ‏:‏ ما وضعَ علامةً على المُسَمَّى، والكُنْيَةُ‏:‏ ما صُدِّرَ بِأَبٍ أو أُمٍّ، واللَّقَبُ‏:‏ ما دلَّ على رفعةٍ أو ضعةٍ‏.‏

ومعرفةُ أفرادِ الأعلامِ نوعٌ من أنواعِ الحديثِ، صنَّفَ فيهِ جماعةٌ، منهم‏:‏ الحافظُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ هارونَ البَرْدِيجيُّ، صنَّفَ فيهِ كتابَهُ المترجمَ ‏"‏ بالأسماءِ المفردةِ ‏"‏ وهوَ أوَّلُ كتابٍ وُضِعَ في جمعِها مفردةً، وإلاَّ فهيَ مفرقةٌ في ‏"‏ تاريخ البخاريِّ الكبير ‏"‏، وكتابِ ‏"‏ الجرحِ والتعديلِ ‏"‏ لابنِ أبي حاتمٍ في أواخرِ الأبوابِ، وقدِ استدركَ أبو عبدِ اللهِ بنُ بُكَيْرٍ وغيرهُ على كتابِ البرديجيِّ في مواضعَ ليستْ أفراداً، بلْ هيَ مثانٍ ومثالثٌ فأكثرُ من ذلكَ، وفي مواضعَ ليستْ أسماءً، وإنما هيَ ألقابٌ، كالأجْلَحِ لُقِّبَ بهِ لِجَلَحَةٍ كانتْ بهِ، واسمهُ يحيى، وقدْ مثَّلَ ابنُ الصَّلاَحِ بجملةٍ منَ الأسماءِ والكنى مرتبةً على حروفِ المعجمِ وبعِدَّةِ ألقابٍ، واقتصرتُ منْ ذلكَ على مثالٍ واحدٍ لكلِّ قسمٍ‏.‏

فمِنْ أمثلةِ أفرادِ الأسماءِ‏:‏ لُبَيُّ بنُ لَبَاً، صحابيٌّ من بني أسدٍ، وكلاهما باللامِ والباءِ الموحدةِ، وهوَ وأبوهُ فردانِ، فالأولُ مُصَغَّرٌ على وزنِ أُبَيِّ بنِ كعبٍ، والثاني مُكَبَّرٌ على وزنِ فَتًى وعَصًا‏.‏

ومثالُ أفرادِ الألقابِ‏:‏ مِندلُ بنُ عليٍّ العَنَزيُّ، واسمُهُ عمرٌو، ومِنْدلٌ لقبٌ لهُ وهوَ بكسرِ الميمِ، كما نصَّ عليهِ الخطيبُ وغيرُهُ، قالَ ابنُ الصَّلاَحِ‏:‏ «ويقولونهُ كثيراً بفَتْحِهَا»‏.‏ انتهى‏.‏

ورأيتُ بخطِّ الحافظِ أبي الحجَّاجِ يوسفَ بنِ خليلٍ الدمشقيِّ نقلاً عن خطِّ الحافظِ محمدِ بنِ ناصرٍ‏:‏ أنَّ الصوابَ فيهِ فتحُ الميمِ‏.‏

ومثالُ الأفرادِ في الكنى‏:‏ أبو مُعِيدٍ- بضمِّ الميمِ وفتحِ العينِ المهملةِ وسكونِ الياءِ المثناةِ من تحتُ وآخرهُ دالٌ مهملةٌ- واسمهُ‏:‏ حفصُ بنُ غَيلانَ‏.‏

فقولي‏:‏ ‏(‏سُما‏)‏- بضمِّ السينِ- لغةٌ في الاسمِ، وهو منصوبٌ على التمييزِ‏.‏ وقولي‏:‏ ‏(‏أو مِنْدلٍ‏)‏، هوَ مجرورٌ عطفاً على ‏(‏لُبَيّ‏)‏، وكذلكَ قولي‏:‏ ‏(‏أبي مُعيدٍ‏)‏‏.‏ و ‏(‏عمرٌو‏)‏ و ‏(‏حفصُ‏)‏‏:‏ مرفوعانِ على الخبريةِ، لمبتدأ محذوفٍ، أي‏:‏ هوَ عَمْرٌو وهوَ حَفْصٌ، ‏(‏وكسراً‏)‏‏:‏ نُصِبَ على نزعِ الخافضِ، أي‏:‏ ونصُّوا على كسرٍ في الميمِ‏.‏

الأَسْمَاءُ والكُنَى

864‏.‏ وَاعْنِ بالاسْماوالكُنَى وَقَدْ قَسَمْ *** الشَّيْخُ ذَا لِتِسْعٍاوْ عَشْرٍ قَسَمْ

865‏.‏ مَنِ اسْمُهُ كُنْيَتُهُ انْفِرَادَا *** نَحْوُ أَبِي بِلاَلٍ اوْ قَدْ زَادَا

866‏.‏ نَحْوَ أَبِي بَكْرِ بنِ حَزْمٍ قَدْ كُنِي *** أبَا مُحَمَّدٍ بِخُلْفٍ فَافْطُنِ

867‏.‏ وَالثَّانِ مَنْ يُكْنَى ولا اسْمًا نَدْرِي *** نَحْوُ أَبي شَيْبَةَ وَهْوَ الخُدْرِي

868‏.‏ ثُمَّ كُنَى الأَلْقَابِ وَالتَّعَدُّدِ *** نَحْوَ أَبي الشَّيْخِ أَبي مُحَمَّدِ

869‏.‏ وابْنُ جُريْجٍ بِأَبِي الوَلِيدِ *** وَخَالِدٍ كُنِّيَ للتَّعْدِيدِ

870‏.‏ ثُمَّ ذَوو الخُلْفِ كُنًى وعُلِما *** أسْمَاؤُهُمْ وَعَكْسُهُ وَفِيْهِمَا

871‏.‏ وَعَكْسُهُ وَذُو اشْتِهَارٍ بِسُمِ *** وعَكْسُهُ أَبُو الضُّحَى لِمُسْلِمِ

منْ فنونِ أصحابِ الحديثِ‏:‏ معرفةُ أسماءِ ذوي الكنى، ومعرفةُ كنى ذوي الأسماءِ، وتنبغي العنايةُ بذلكَ، فربما وردَ ذكرُ الراوي مرَّةً بكنيتِهِ، ومرةً باسمِهِ فيظنَّهما مَنْ لا معرفةَ لهُ بذلكَ رجلينِ، وربما ذُكرَ الراوي باسمِهِ وكنيتِهِ معاً فتوهمَهُ بعضُهم رجلينِ، كالحديثِ الذي رواهُ الحاكمُ من روايةِ أبي يوسفَ عن أبي حنيفةَ، عنْ موسى بنِ أبي عائشةَ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ شدَّادٍ، عنْ أبي الوليدِ، عنْ جابرٍ مرفوعاً‏:‏ «مَنْ صلَّى خَلْفَ الإمامِ، فإنَّ قراءَ تَهُ لهُ قراءةٌ»، قالَ الحاكمُ‏:‏ «عبدُ اللهِ بنُ شدادٍ هوَ نفسُهُ أبو الوليدِ»، بيَّنَهُ عليُّ بنُ المدينيِّ‏.‏ قالَ الحاكمُ‏:‏ «ومَنْ تهاونَ بمعرفةِ الأسامي، أورثهُ مثلَ هذا الوهمُ»‏.‏ قلتُ‏:‏ وربَّما وقعَ عكسُ ذلكَ كما تقدَّم قبلَهُ بنوعٍ في قولِ النسائيِّ‏:‏ عنْ أبي أسامةَ حمادِ بنِ السائبِ‏.‏ فوهمَ في ذلكَ، وإنما هوَ عنْ حمادِ بنِ السائبِ، وأبو أسامةَ إنَّما اسمُهُ حمادُ بنُ أسامةَ، وحمادُ بنُ السائبِ هوَ محمدُ بنُ السائبِ الكلبيُّ، واللهُ أعلمُ‏.‏

ولَقَدْ بَلغني عنْ بعضِ مَنْ دَرَّسَ في الحديثِ ممَّنْ رأيتُهُ أنَّهُ أرادَ الكشفَ عنْ ترجمةِ أبي الزنادِ، فلمْ يهتدِ إلى معرفةِ ترجمتِهِ من كتبِ الأسماءِ؛ لعدمِ معرفتِهِ باسمِهِ معَ كونِ اسمِهِ معروفاً عندَ المبتدئينَ منْ طلبةِ الحديثِ، وهوَ عبدُ اللهِ بنُ ذكوانَ، وأبو الزنادِ لقبٌ لهُ، وكنيتُهُ‏:‏ أبو عبدِ الرحمنِ‏.‏

وقدْ صنَّفَ في ذلكَ جماعةٌ منهم‏:‏ عليُّ بنُ المدينيِّ، ومسلمُ بنُ الحجَّاجِ، والنسائيُّ، وأبو بشرٍ الدُّولابيُّ، وأبو أحمدَ الحاكمُ، وأبو عمرَ بنُ عبدِ البرِّ‏.‏

وكتابُ أبي أحمدَ الحاكمِ أجلُّ ما صُنِّفَ في ذلكَ، وأكبرهُ، فإنَّهُ يذكرُ فيهِ مَنْ عُرِفَ اسمُهُ، ومَنْ لَمْ يعرفِ اسمُهُ، وكتابُ مسلمٍ والنسائيِّ لمْ يُذكرا فيهما غالباً إلا مَنْ عُرِفَ اسمُهُ غالباً‏.‏

والذينَ صنَّفُوا في ذلكَ بوَّبوا الأبوابَ على الكنى، وبيَّنوا أسماءَ أصحابها، إلاَّ أنَّ النسائيَّ رتَّبَ حروفَ كتابِهِ على ترتيبٍ غريبٍ ليسَ على ترتيب حروفِ المعجمِ المشهورةِ عندَ المشارقةِ، ولا على اصطلاحِ المغاربةِ، ولا على ترتيبِ حروفِ أبجدَ، ولا على ترتيبِ حروفِ كثيرٍ من أهلِ اللغةِ، ك‍‏"‏ العينِ ‏"‏ و ‏"‏ المحكمِ ‏"‏، وهذا ترتيبها‏:‏ أ ل ب ت ث ي ن س ش ر ز د ذ ك ط ظ ص ض ف ق و ه م ع غ ج ح خ، وقدْ نظمْتُ ترتيبها في بيتينِ في أولِ كلِّ كلمةٍ منها حرفٌ وهيَ‏:‏

إذَا لَمَّ بِي تَرحٌ ثَوى يومَ نأيهم *** سَرَتْ شَمْألٌ رقَّتْ زَوَتْ دَاءَ ذي كَمَدْ

طَوَتْ ظِئْرَ صَدْرٍ ضاقَ في قَيدِ وَجْدِهِ *** هَدَتْ مَنْ عَمَى غَيٍّ جَوَى حَرَّها خَمَدْ

وقدْ قسمَ ابنُ الصَّلاَحِ معرفةَ الأسماءِ والكنى إلى عشرةِ أقسامٍ من وجهٍ وإلى تسعةِ أقسامٍ منْ وجهٍ آخرَ‏.‏ فقولي‏:‏ ‏(‏لتسعٍ او عشرٍ‏)‏ ليس ذلكَ للشكِّ في كلامِ ابنِ الصَّلاَحِ؛ ولكنَّهُ فرَّقَ ذلكَ في نوعينِ، وجمعتُهما في نوعٍ واحدٍ فذكرَ في النوعِ الأولِ، وهو‏:‏ النوعُ المُوَفِّي خمسينَ من كتابِهِ‏.‏ وهوَ ‏"‏بيانُ أسماءِ ذوي الكنى‏"‏ تسعةُ أقسامٍ‏.‏ ثمَّ قالَ-في النوعِ الذي يليهِ-‏:‏ وهوَ ‏"‏معرفةُ كنى المعروفينَ بالأسماءِ‏"‏- وهذا من وجهٍ ضدَّ النوعِ الذي قبلهُ- ومِنْ شأنِهِ أن يبوبَ على الأسماءِ ثمَّ يبينَ كناها بخلافِ ذلكَ، ومِنْ وجهٍ آخر يصلحُ لأنْ يجعلَ قسماً من أقسامِ ذلكَ من حيثُ كونُهُ قسماً من أقسامِ أصحابِ الكُنى وقَلَّ مَنْ أفردَهُ بالتصنيفِ، قالَ‏:‏ وبلغنا أنَّ لأبي حاتمِ بنِ حِبَّانَ البستيِّ فيهِ كتاباً‏.‏

قلتُ‏:‏ وإنما جمعتُهُ معَ النوعِ الذي قبلهُ؛ لأَنَّ الذينَ صنَّفوا في الكنى جمعُوا النوعينِ معاً‏:‏ مَنْ عُرِفَ بالكنيةِ، ومنْ عُرِفَ بالاسمِ‏.‏

‏[‏أقسام أصحاب الكنى‏]‏

القسمُ الأولُ‏:‏ مَنِ اسمُهُ كنيتُهُ، وهذا القسمُ ينقسمُ إلى قسمينِ‏:‏

أحدُهما‏:‏ مَنْ لا كنيةَ لهُ، غيرُ الكنيةِ التي هيَ اسمُهُ، وإليهِ أشرتُ بقولي‏:‏ ‏(‏انفرادا‏)‏ أي‏:‏ ليسَ لهُ كنيةٌ إلاَّ ذلكَ، ومثالُ ذلكَ أبو بلالٍ الأشعريُّ، وأبو حصينِ بنُ يحيى الرازيُّ، فقالَ كلٌّ منهما‏:‏- اسْمِي وكُنْيَتِي- واحدٌ‏.‏ وكذا قالَ أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ المقرئُ‏:‏ ليسَ لي اسمٌ غيرَ أبي بكرٍ‏.‏ وقدِ اختُلِفَ في اسمِهِ على أحدَ عشرَ قولاً‏.‏ وصحَّحَ أبو زرعةَ أنَّ اسمَهُ شعبةُ، وقد ذكرهُ ابنُ الصَّلاَحِ في القسمِ السادسِ وصحَّحَ أنَّ اسمَهُ كنيتُهُ، كما تقدَّمَ‏.‏

والقسمُ الثاني من القسمِ الأولِ‏:‏ مَنْ لهُ كنيةٌ أخرى زيادةً على اسمِهِ الذي هوَ كنيتُهُ، ومثالُهُ أبو بكرِ بنُ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حزمٍ الأنصاريُّ، فقيلَ‏:‏ اسمُهُ أبو بكرٍ، وكنيتُهُ أبو محمدٍ‏.‏ ونحوهُ‏:‏ أبو بكرِ بنُ عبدِ الرحمنِ بنِ الحارثِ، أحدُ الفقهاءِ السبعةِ، اسمهُ أبو بكرٍ وكنيتهُ أبو عبدِ الرحمنِ على ما قالَهُ ابنُ الصَّلاَحِ‏.‏ وذكرَ الخطيبُ‏:‏ أنَّهُ لا نظيرَ لهذينِ الاسمينِ في ذلكَ، قالَ ابنُ الصَّلاَحِ‏:‏ «وقدْ قيلَ‏:‏ إنَّهُ لا كنيةَ لابنِ حَزْمٍ غيرُ الكنيةِ التي هيَ اسمُهُ» انتهى، وأشرتُ إلى هذا بقولي‏:‏ ‏(‏بِخلفٍ‏)‏ أي‏:‏ اختُلِفَ في تكنيتِهِ بأبي محمدٍ‏.‏

والقسمُ الثاني من أصلِ التقسيمِ‏:‏ مَنْ عُرِفَ بِكنيتِهِ ولَمْ نقفْ لهُ على اسمٍ فلَمْ ندرِ هلْ اسمُهُ كنيتُهُ كالأولِ، أوْ لَهُ اسمٌ ولَمْ نقفْ عليهِ‏؟‏ مثالهُ‏:‏ أبو شَيْبَةَ الخُدْرِيُّ مِنَ الصحابةِ، ماتَ في حصارِ القُسْطَنْطِيْنِيَّةِ، ودُفِنَ هناكَ، وكأبي أُنَاسٍ-بالنونِ-، وأبي مُوَيْهِبَةَ منَ الصحابةِ أيضاً، وكأبي بكرِ ابنِ نافعٍ مولى ابنِ عمرَ، وأبي النَّجِيْبِ- بالنونِ-، وقيلَ‏:‏ بالمثناةِ من فوقِ المضمومةِ مولى عبدِ اللهِ بنِ سَعْدِ بنِ أبي سَرْحٍ، وأبي حَرْبِ بنِ أبي الأسودِ، وأبي حَرِيْزٍ المَوْقِفيِّ‏.‏

والقسمُ الثالثُ‏:‏ مَنْ لُقِّبَ بكنيةٍ كأبي الشيخِ ابنِ حيَّانَ، اسمُهُ عبدُ اللهِ بنُ محمدِ بنِ جعفرٍ، وكنيتُهُ أبو محمدٍ، وأبو الشيخِ لقبٌ لهُ، وممَّنْ لُقِّبَ بكنيتِهِ‏:‏ أبو ترابٍ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه، وأبو الزِّنادِ، وأبو الرِّجالِ، وأبو تُمَيْلَةَ، وأبو الآذانِ، وأبو حازمٍ العَبْدُوِيُّ‏.‏

والقسمُ الرابعُ‏:‏ مَنْ لهُ كنيتانِ فأكثرُ، وهوَ المرادُ بقولي‏:‏ ‏(‏والتعددِ‏)‏ أي‏:‏ تعددتْ كنيتُهُ، وفي الكلامِ لفٌ ونشرٌ، أي‏:‏ ثمَّ كنى الألقابِ كأبي الشيخِ وكُنى التعددِ، كابنِ جُرَيْجٍ، كُني بأبي الوليدِ وبأبي خالدٍ، وهوَ عبدُ الملكِ بنُ عبدِ العزيزِ بنِ جُرَيْجٍ، وكانَ يقالُ‏:‏ المنصورُ بنُ عبدِ المنعمِ الفُرَاويُّ ذو الكُنى؛ كانَ لهُ ثلاثُ كنًى‏:‏ أبو بكرٍ، وأبو الفتحِ، وأبو القاسمِ‏.‏

والقسمُ الخامسُ‏:‏ مَنِ اختُلِفَ في كنيتِهِ على قولينِ، أو أقوالٍ، وقدْ عُلِمَ اسمُهُ فلمْ يُخْتَلَفُ فيهِ‏.‏ قالَ ابنُ الصَّلاَحِ‏:‏ «ولعبدِ اللهِ بنِ عطاءٍ الإبراهيميِّ الهرويِّ منَ المتأخرينَ فيهِ مختصرٌ؛ وذلكَ كأسامةَ بنِ زيدٍ الحِبِّ، أبي زيدٍ أو أبي محمدٍ أو أبي عبدِ اللهِ أو أبي خَارِجةَ، أقوالٌ‏.‏ وكأُبيِّ بنِ كعبٍ أبي المنذرِ، وقيلَ‏:‏ أبو الطُّفيلِ‏.‏ وكقبيصةَ بنِ ذؤيبٍ أبي إسحاقَ، وقيلَ‏:‏ أبو سعيدٍ‏.‏ وكالقاسمِ بنِ محمدٍ، أبي عبدِ الرحمنِ، وقيلَ‏:‏ أبو محمدٍ‏.‏ وكسليمانَ بنِ بلالٍ أبي أيُّوبَ، وقيلَ‏:‏ أبو محمدٍ‏.‏

قالَ ابنُ الصَّلاَحِ‏:‏ «وفي بعضِ مَنْ ذُكِرَ في هذَا القسمِ مَنْ هوَ في نفسِ الأمرِ ملتحقٌ بالذي قَبْلَهُ»، وقولي‏:‏ ‏(‏كُنًى‏)‏، في موضعِ نصبٍ على التمييزِ‏.‏

والقسمُ السادسُ‏:‏ عكسُ الذي قبلهُ، وهوَ مَنِ اختُلِفَ في اسمِهِ وعُرِفتْ كنيتُهُ فلمْ يُختلَفُ فيها‏:‏ كأبي هريرةَ الدوسيِّ، اختلفَ في اسمهِ واسمِ أبيهِ على نحوِ عشرينَ قولاً، قالَهُ ابنُ عبدِ البرِّ‏.‏ وقالَ النوويُّ‏:‏ ثلاثينَ قولاً، وذكرَ ابنُ إسحاقَ‏:‏ أنَّ اسمَهُ عبدُ الرحمنِ بنُ صخرٍ، وصحَّحهُ أبو أحمدَ الحاكمُ في ‏"‏ الكنى ‏"‏، والرافعيُّ في ‏"‏ التذنيبِ ‏"‏، والنوويُّ، وآخرونَ‏.‏

وصحَّحَ الشيخُ شرفُ الدينِ الدمياطيُّ- أعلمُ المتأخرينَ بالأنسابِ-‏:‏ أنَّ اسمَهُ عميرُ بنُ عامرٍ‏.‏ وكأبي بَصْرَةَ الغفاريِّ، اسمُهُ حُميلُ- بضمِّ الحاءِ المهملةِ- مصغراً على الأصحِّ، وقيلَ‏:‏ بالجيمِ مكبراً‏.‏ وكأبي جُحَيْفَةَ وَهْبٍ، وقيلَ‏:‏ وهبُ اللهِ، وكأبي بُردةَ بنِ أبي موسى الأشعريِّ‏:‏ عامرٍ، عندَ الجمهورِ، وقالَ ابنُ مَعينٍ‏:‏

الحارثُ‏.‏ وكأبي بكرِ بنِ عياشٍ المقرئ، وقدْ تقدَّمَ في القسمِ الأولِ‏.‏

والقسمُ السابعُ‏:‏ مَنِ اختُلِفَ في كنيتِهِ واسمِهِ معاً، وإليهِ الإشارةُ بقولي‏:‏ ‏(‏وفيهما‏)‏، ومثالهُ‏:‏ سفينةُ مولى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهوَ لقبٌ لهُ، واسمُهُ‏:‏ عُميرٌ أو صالحٌ أو مهرانُ، أقوالٌ، وكنيتُهُ أبو عبدِ الرحمنِ، وقيلَ‏:‏ أبو البَخْتَرِيِّ‏.‏

والقسمُ الثامنُ‏:‏ مَنْ لَمْ يُختلفْ في كنيتِهِ ولا في اسمِهِ بل عُلِمَا معاً، وإليهِ أشرتُ بقولي في أول البيتِ الأخيرِ‏:‏ ‏(‏وعكسُهُ‏)‏ أي‏:‏ لَمْ يختلفْ في واحدٍ منهما؛ وذلكَ كأئمةِ المذاهبِ أبي حنيفةَ النعمانِ، وآباءِ عبدِ اللهِ سفيانَ الثوريِّ ومالكٍ، ومحمدِ بنِ إدريسَ الشافعيِّ، وأحمدَ بنِ محمدِ بنِ حنبلٍ رضي الله عنهم‏.‏

والقسمُ التاسعُ‏:‏ مَنِ اشتهرَ باسمِهِ دونَ كنيتِهِ، وقولي‏:‏ ‏(‏بسُمِ‏)‏- بضمِّ السينِ- لغةً في الاسمِ، وهيَ غيرُ لغةِ القصرِ فيهِ‏.‏

وهذا القسمُ هوَ الذي أفردَهُ ابنُ الصَّلاَحِ بنوعٍ على حدةٍ، كطلحةَ بنِ عُبيدِ اللهِ، وعبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ، والحسنِ بنِ عليٍّ في آخرينَ‏.‏ كنيةُ كلِّ واحدٍ منهمْ أبو محمدٍ، وكالزبيرِ بنِ العوامِ، والحسينِ بنِ عليٍّ، وحذيفةَ، وسلمانَ، وجابرٍ في آخرينَ، كُنُّوا بأبي عبدِ اللهِ، وكعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وعبدِ اللهِ بنِ عُمرَ في آخرينَ، كُنُّوا بأبي عبدِ الرحمنِ، وفي هذا النوعِ كثرةٌ لا يحتاجُ مثلهُ إلى مثالٍ‏.‏

والقسمُ العاشرُ‏:‏ عكسُ الذي قبلَهُ وهوَ مَنِ اشتهرَ بكنيتِهِ دونَ اسمِهِ، كأبي الضُّحَى‏:‏ مُسلمِ بنِ صُبَيْحٍ، وأبوهُ-بضمِّ الصادِ المهملةِ- وأبي إدريسَ الخولانيِّ‏:‏ عائذِ اللهِ‏.‏ وأبي إسحاقَ السَّبِيعيِّ‏:‏ عمرٍو‏.‏ وأبي حازمٍ الأعرجِ سلمةَ، وخلقٍ لا يُحْصَونَ‏.‏

الأَلْقَابُ

872‏.‏ وَاعْنِ بِالالْقَابِ فَرُبَّمَا جُعِلْ *** الوَاحِدُ اثْنَيْنِ الذِيْ مِنْهَا عُطِلْ

873‏.‏ نَحْوُ الضَّعِيفِ أيْ بِجِسْمِهِ وَمَنْ *** ضَلَّ الطَّرِيْقَ بِاسْمِ فَاعِلٍ وَلَنْ

874‏.‏ يَجُوزَ مَا يَكْرَهُهُ المُلَقَّبُ *** وَرُبَّمَا كَانَ لِبَعْضٍ سَبَبُ

875‏.‏ كَغُنْدَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ *** وصَالِحٍ جَزَرَةَ المُشْتَهِرِ

ممَّا تنبغي العنايةُ بهِ معرفةُ ألقابِ المحدثينَ، والعلماءِ، ومَنْ ذُكِرَ معهم، وربما وهمَ العاطلُ من معرفةِ الألقابِ، فجعلَ الرجلَ الواحدَ اثنينِ، إذ يكونُ قدْ ذُكرَ مرةً باسمهِ، ومرةً بلقبِهِ‏.‏ وقدْ وقعَ ذلكَ لجماعةٍ من أكابرِ الحفَّاظِ، منهم‏:‏ عليُّ بنُ المدينيِّ، وعبدُ الرحمنِ بنُ يوسفَ بنِ خراشٍ، فرَّقوا بينَ عبدِ اللهِ بنِ أبي صالحٍ أخي سهيلٍ، وبينَ عبادِ بنِ أبي صالحٍ، فجعلوهما اثنينِ‏.‏ وقالَ الخطيبُ-فيما قرأتُ بخطِّهِ- في ‏"‏ الموضح ‏"‏‏:‏ «وعبدُ اللهِ بنُ أبي صالحٍ، كانَ يُلَقَّبُ عبَّاداً، وليسَ عبادٌ بأخٍ لهُ، اتفقَ على ذلكَ أحمدُ بنُ حنبلٍ، ويحيى ابنُ معينٍ، وأبو حاتمٍ الرازيُّ، وأبو داودَ السجستانيُّ، وموسى بنُ هارونَ بنِ عبدِ اللهِ البغداديُّ، ومحمدُ بنُ إسحاقَ السراجُ»‏.‏ وقدْ تقدَّمَتِ الإشارةُ إلى ذلكَ في فصلِ الأخوةِ والأخواتِ‏.‏

وقدْ صنَّفَ في الألقابِ جماعةٌ منَ الحفَّاظِ‏:‏ أبو بكرٍ الشيرازيُّ، وأبو الفضلِ الفَلَكِيُّ، وأبو الوليدِ بنُ الدباغِ، وأبو الفرجِ بنُ الجوزيِّ، ومثالُ ذلكَ‏:‏ الضَّعِيْفُ والضَّالُّ، وإليهِ أشرتُ بقولي‏:‏ ‏(‏ومَنْ ضلَّ الطريقَ باسمِ فاعلٍ‏)‏ أي‏:‏ مَنْ ضلَّ، فحَذْفُ الجارِّ والمجرورِ؛ لدلالةِ الكلامِ عليهِ، قالَ عبدُ الغنيِّ بنُ سعيدٍ‏:‏ رجلانِ جليلانِ لَزِمَهُمَا لَقَبَانِ قَبِيْحَانِ‏:‏ معاويةُ بنُ عبدِ الكريمِ الضَّالُّ، وإنما ضَلَّ في طريقِ مكةَ، وعبدُ اللهِ بنُ محمدٍ الضَّعيفُ، وإنما كانَ ضعيفاً في جسمهِ لا في حديثهِ‏.‏ انتهى‏.‏ وقيلَ‏:‏ إنَّهُ مِنْ بابِ الأضدادِ، كما قيلَ في الزنجيِّ مسلمِ بنِ خالدٍ، قالَهُ ابنُ حِبَّانَ، وإنهُ قيلَ لهُ‏:‏ الضعيفُ؛ لإتقانِهِ وضبطِهِ‏.‏

ثمَّ الأَلقابُ تنقسمُ‏:‏ إلى ما لا يكرههُ الملقَّبُ بهِ، كأبي ترابٍ- لقبُ عليٍّ رضي الله عنه- فقدْ قالَ سهلُ بنُ سعدٍ في الحديثِ المتفقِ عليهِ ما كانَ لهُ اسمٌ أحبَّ إليهِ منهُ، وكبُنْدارٍ- لقبُ محمدِ بنِ بشارٍ- فهذا لا إشكالَ في جوازِ تعريفِهِ بهِ‏.‏

وإلى ما يكرهُهُ الملقَّبُ بهِ، فلا يجوزُ تعريفُهُ بهِ، وقدْ تقدَّمَ الكلامُ على ذلكَ في أواخرِ آدابِ المُحَدِّثِ‏.‏

ثمَّ الألقابُ قدْ لا يعرفُ سببُ التلقيبِ بها؛ وذلكَ موجودٌ في كثيرٍ منها، وقدْ يُذكَرُ السببُ في ذلكَ، ولِعَبدِ الغنيِّ بنِ سعيدٍ في ذلكَ كتابٌ مفيدٌ؛ وذلكَ كغُندَرٍ وجزرةَ، فأما غُنْدَرٌ- فهوَ لقبُ محمدِ بنِ جعفرٍ البصريِّ- وكانَ سببُ تلقيبهِ بذلكَ‏:‏ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ قَدِمَ البصرةَ، فحدَّثَ بحديثٍ عنِ الحسنِ البصريِّ، فأنكروهُ عليهِ وشغبوا، قالَ ابنُ عائشةَ‏:‏ إنما لَقَّبَ غُنْدَراً ابنُ جُرَيْجٍ من ذلكَ اليومِ الذي كانَ يكثرُ الشَّغَبَ عليهِ، فقالَ‏:‏ اسكتْ يا غُنْدَرُ‏.‏ وأهلُ الحجازِ يُسَمُّونَ المُشْغِّبَ غُنْدَرَاً‏.‏

ثمَّ كانَ بعدهُ جماعةٌ يلقبُ كلٌّ منهم غُنْدَراً، فمنهمْ مَنِ اسمُهُ محمدُ بنُ جعفرٍ‏:‏ أبو الحسينِ الرازيُّ، وأبو بكرٍ البغداديُّ الحافظُ، وأبو الطيبِ البغداديُّ‏.‏

وأما جزرةُ‏:‏ فهو لقبُ أبي عليٍّ صالحِ بنِ محمدٍ البغداديِّ الحافظِ‏.‏وروى الحاكمُ‏:‏ أنَّ صالحاً سُئِلَ‏:‏ لِمَ لُقِّبْتَ بجزرةَ‏؟‏ فقالَ‏:‏ قَدِمَ عمرُو بنُ زُرارةَ بغدادَ فاجتمعَ عليهِ خلقٌ عظيمٌ فلمَّا كانَ عندَ الفراغِ منَ المجلسِ سُئِلْتُ‏:‏ منْ أينَ سَمِعْتَ‏؟‏ فقلتُ‏:‏ من حديثِ الجَزَرَةِ، فَبَقِيَتْ عليَّ‏.‏ انتهى، وذلكَ في حديثِ عبدِ اللهِ بنِ بسرٍ‏:‏ أنَّهُ كانَ يَرْقِي بِخَرَزَةٍ-بالخاءِ المعجمةِ وتقديمِ الراءِ- فَصَحَّفَها صالحٌ- بالجيمِ وتقديم الزاي-‏.‏

وذكرَ ابنُ الصَّلاَحِ عدةً صالحةً منَ الألقابِ، فحذفتها اختصاراً، وهيَ غُنْجَارٌ‏:‏ اثنانِ، وَشَبابُ وزُنَيْجٌ، ورُسْتَهْ وسُنَيدٌ، وبُنْدَارٌ، وقَيْصَرُ، والأخفشُ‏:‏ جماعةٌ، ومُرَبَّعٌ، وعُبَيْدٌ العِجْلُ، وكِيْلَجَةُ، وَمَاغَمَّهْ، وعَلاَّنُ وسَجَّادةُ، ومُشْكُدَانَه، ومُطَيَّنٌ، وعَبْدَانُ، وحَمْدَانُ، ووَهْبَانُ‏.‏